• العنوان:
    الحلقة الثالثة من كتاب (تلك هي فاطمة) للأستاذ حمود الأهنومي
  • المدة:
    00:00:00
  • الوصف:
    المجاهدة .. بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاء الله أن تشرق شمس فاطمة بإشراقة الإسلام، وأن تكون آخرة إخوتها، وسيدة نساء الدنيا والأخرى، لتكون النموذج للمرأة المؤمنة في هذا العصر الأخير أيضا. إن كونها صغرى أولاده صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تولد إلا مع ولادة الإسلام نفسه، وكونَها كانت جزءا من أبيها وقطعة منه، ثم أم أبيها المجاهد، ثم زوجة سيد المجاهدين، وأم الشهيدين سيدي شباب أهل الجنة، الحسن والحسين، فإن ذلك يعني أنها النموذج المثالي للمرأة المؤمنة، بل وللمرأة العالمية.
  • التصنيفات:
    ثقافة
  • كلمات مفتاحية:

المجاهدة .. بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم

شاء الله أن تشرق شمس فاطمة بإشراقة الإسلام، وأن تكون آخرة إخوتها، وسيدة نساء الدنيا والأخرى، لتكون النموذج للمرأة المؤمنة في هذا العصر الأخير أيضا.

إن كونها صغرى أولاده  صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تولد إلا مع ولادة الإسلام نفسه، وكونَها كانت جزءا من أبيها وقطعة منه، ثم أم أبيها المجاهد، ثم زوجة سيد المجاهدين، وأم الشهيدين سيدي شباب أهل الجنة، الحسن والحسين، فإن ذلك يعني أنها النموذج المثالي للمرأة المؤمنة، بل وللمرأة العالمية.

وفي ما سبق اتضح أنها كانت على علاقة مميَّزة بوالدها النبي الرسول المجاهد، وأنها اضطلعت بمهمة الجهاد، وهي لا تزال صغيرة، أو ليست هي الناشئة على تقلُّبات الحوادث وصرَم الأيام، التي أنتجتها حركة والدها الجهادية؟!

كانت سلام الله عليها على علاقة خاصة بوالدها صلى الله عليه وآله وسلم، وهي بضعة منه في كل شيء، حتى في جهاده صلى الله عليه وآله وسلم، ودلّت حوادث عديدة ومنها حادثة أبي لبابة بأنها بالفعل كانت تمثل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وليس صُدفة أن يكون والدها النبي المجاهد حريصا على أن يكون آخر عهده بها حين يتحرك للسفر وإلى الجهاد، وإذا قدِم كانت هي أول الناس به عهدا، ولكأنه كان حريصا على أن تعيش معه بيئة الجهاد وتشاركه فيه ذهابا وإيابا.

ساهمت فاطمة ‘ في جهادِ والدها في مكة، وسجَّل لها التاريخُ رغم صغرِ سنِّها مواقفَ رائعة تُسْعِد فتياتنا اليوم اللاتي هن بنات المجاهدين، والشهداء، وأخواتُهم، وزوجاتُهم، وأمهاتهم، وتملأ جوانحَهن بصيرة وأملا ومعنوية عالية.

فاطمة بنت الرسول المجاهد هي تلك التي وطّد أبوها معها علاقة الإسلام مع بناته العظيمات، ألم يعتبِرْ رسولُ الله السلامَ عليها وعليه في حياتهما وبعد مماتهما ذا خيرٍ كبير، ولُطفٍ عظيم، يتسبَّب في اكتساب الأعمالِ الصالحة، ومن ثم دخول الجنة؟( )، وألم يجعل غضبَها غضبًا لله، وإرضاءَها إرضاءً لله تعالى؟( ).

هي تلك التي خيَّرها أبوها وهي أشد ما تكون محتاجة بين خمس أعنز وردَت للتو، أو كلمات علَّمه إياهن جبريلُ قُبَيل مجيئها إليه، فاختارت كلمات جبريل على أعنُزِ الدنيا، وهكذا المرأة المجاهدة تتَّجه لتغذية الروح أكثر من تغذية الجسد، وما أروعَ تلك الكلمات التي حَمَلَهَا جبريل، وتعلَّمَتْها فاطمة الزهراء، إنها: (يا أول الأولين، ويا آخر الآخرين، ويا ذا القوة المتين، ويا راحم المساكين، ويا أرحم الراحمين)، والأروع أنها لما عادت إلى علي % وسألها عما وراءها؟ قالت: خرجْتُ من عندك إلى الدنيا، وأتيتُك بالآخرة، فيردُّ علي عليه السلام عليها قائلا: (خير أيامك، خير أيامك)، أوليس الدعاء لله ومناجاته تعالى هو خير زاد للمجاهدين؟!.

وحين طلبا منه صلى الله عليه وآله وسلم خادما يعينهما على شؤون البيت، وقد مجُلت يداهما أراد لهما الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يعيشا حياة الكفاح، وروحية النضال، ودلَّهما على ما هو خيرٌ لهما من خادم، دلَّهما على التسبيح والتحميد والتكبير.

فاطمة بنت النبي المجاهد هي التي ندّت بها حالة في إحدى المرات إلى متاع الدنيا البسيط والمباح، فوضَعَتْ في يومٍ من الأيام على عنقها قِلادةً من ذهب، كان قد اشتراها لها علي عليه السلام من نصيبِه من الفيء، ولما زارها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورآها، قال لها: (لا يَغرَّنك الناسُ أن يقولوا: بنت محمد، وعليك لبس الجبابرة) ، فماذا فعلت فاطمة المجاهدة؟.

لقد استيقظت بسرعة وتذكَّرت أنها بنتُ النبي محمد، وأنها أمُّ أبيها، وليست بنت الذهب والفضة، ولا بنت الموضات، فعادت بسرعة لتكون بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقطَعَتها، وباعتها، واشترت بها رقبة، فأعتقتها، فسُرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ).

سر صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه تأكَّد أن فاطمة عادت لتكون بالفعل بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم النبي المجاهد، وتركت ما يحل لها ويباح، طلبا لعظيم ما عند الله، وحفاظا على روحيتها المحمدية الجهادية الثائرة الزاهدة، عادت لتكون بالفعل كمحمد، وبنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهكذا أهل بيته الأطهار المجاهدون، كأفضل وأبهى بشر يعرجون إلى مدارج العلياء، ويتسنَّمون مواطنَ الروح الفاضلة، وكلما اجتذبتهم الدنيا إليها عادوا إلى الأخرى من بوابةِ إسعادِ عباد الله، وأعظمُ ذلك عتق الرقاب.

ظلَّت فاطمة في المدينة بنتَ محمدٍ النبي المجاهد، كما كانت في مكة، وبعد أن تزوَّجت بعلي المجاهد ظلَّت كما كانت قبل الزواج، وشاركت في جميع المجالات الجهادية المتاحة للمرأة في تلك الظروف، فقد هُرِعت مع أخريات من المدينة إلى أحد بعد المعركة لمعالجة الجرحى، فعالجت أباها النبي المجاهد، واستطاعت أن توقِف نزيف دم وجهه( ).

لقد جاءت هي وأربع عشرة امرأة إلى أُحُد يحمِلْنَ الطعامَ والشرابَ على ظهورهن، ويسقين الجرحى، ويداوينهم( )، وإذا عرفنا أنهن جِئْنَ بعد معرفتهن بهزيمة جيش المسلمين وإشاعات مقتلِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم واحتمال هجوم جيش المشركين على المدينة؛ فإنه يتبيَّن لنا مقدارُ شجاعتهن وثقتهن بالله تعالى، وهن يتقدَّمْن إلى أرضِ المعركة على بعد بضعة كيلوهات شمال المدينة، ولا يَخَفْن من غائلة انحراف جيش المشركين نحو المدينة أو نحو طريقهن.

وعند فتح مكة خرجت مع أبيها وزوجها، وتحكي السير أنه قد ضُرِب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خِباء بالبطحاء، وجلس فيه يغتسل، وكانت فاطمة معه تستره، وأمرها فسكبت له غسلا فاغتسل.

وكانت تهتم بأمر المجاهدين، وتتألم كثيرا لفقد بعضهم، كما تألّمت عند ورود استشهاد ابن عم أبيها وأخي زوجها جعفر بن أبي طالب، مشارِكة لأهله في عزائهم، وتخفيفا لمصابهم. وأمرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تتخذ لأسماء بنت عميس طعاماً ثلاثة أيام، وأمرها أن تقيم عندها ثلاثة أيام هي ونساؤها لتسليها عن المصيبة( ).

ولأنها بنت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الذي ما فتِئ يربي أمته على مكارم الأخلاق، وعلى المبادرة إلى الجهاد، فلا شك أنها بذلت ما أمكنها، وآية ذلك أنها ربَّت أعظمَ فتيَين سيدَين مجاهدَين شهيدَين، سوَّدَهما اللهُ على شبابِ أهلِ الجنة، ومنها انطلقت أعظمُ سيدة هاشمية من فتيات الجهاد، وهي زينب الكبرى.

كان الجهاد يحتل مكانة مقدَّسة في وعي فاطمة، كما هو شأنه في الإسلام، أليست هي القائلة في خطبتها في وجه أبي بكر، وهي تعدِّد حُكْمَ تشريعاتِ الإسلام، فقالت: (والجهادَ( ) عزًا للإسلام)، ويدل على وعيها الجهادي أنها قرنت الجهاد الذي منه القتال في سبيل الله، بالصبر، وبالأمر بالمعروف، وتعليل ذلك بـ(عز الإسلام).

ظلَّت الزهراء وفية لأبيها ولحركته الجهادية، وظلَّت بنتَ محمدٍ كما أراد صلى الله عليه وآله وسلم، بل ولكأن العناية الإلهية أرادت لها أن تكون قريبة إليه في الدنيا والآخرة، وهو ذلك الذي كان يشتاق إليها دائما، ويجعلُها آخِرَ مَنْ يودِّع إذا سافر، وأولَ من يستقبِل إذا قدِم، فكانت بالفعل هي آخرَ مَن ودَّعهم في حياته، وكانت هي أيضا أولَ من استقبل منهم في الآخرة؛ إذ كانت أول أهل بيته لحاقًا.

ولما اشتدَّ به المرض قبيل وفاته قالت: واكرباه لكربك يا أبتاه، فقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم( )، ولما أسرّ إليها أنه سيغادر الحياة بكت، لكنه لمَّا أعلمها أنها أول اللاحقين به وأنها سيدة نساء المؤمنين ضحكت( ).

ظلت فاطمة - كما أرادها والدها -  بِنْتَ محمد، صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولهذا لما منعَتْها سلطةُ الخلافة ما نحَلَها أبوها في فدك، وميراثَها في المدينة وخيبر، اعتبرَت ذلك تفريقا بين فاطمة وأبيها محمد، فقالت: (أترث أباك يا ابن أبي قحافة ولا أرث أبي؟!)( ) .

أليست هي فاطمةَ بِنْتَ محمد!! فكيف يريدون محمدا بلا فاطمة، وكذلك كيف يريدونها فاطمة بدون محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟!

...

موقفها من الشهداء

كانت سلام الله عليها تهتم بأمر المجاهدين، وبالشهداء منهم، فلما استُشْهِد عمُّ أبيها حمزة بكت، فانهلّت دموع أبيها لبكائها( )، ومعنى ذلك أنها كانت تشعر بحالة الجهاد، وتعاني من فقد رجالات الإسلام العظماء؛ لكنها لم تكتف بالانفعالات الوجدانية على أسدِ الله عمِّ أبيها حمزة، بل تحرَّكت في أنشطة عملية رائعة تخلِّد ذكرى الشهداء، وتقدِّس قضاياهم، وتجعلُهم قدواتٍ نموذجيةً للأجيال المسلمة.

لقد كانت سلامُ الله عليها تأتي قبورَ الشهداء غداة كلِّ سبت، وكانت تأتي قبْرَ حمزة وتزوره وتقوم عليه( )، بل كانت أيضا: "ترمه وتصلحه"( ).

وفي ذلك ما فيه من إحياء قضية الجهاد، وتربية الأجيال على حبِّه وحبِّ الاستشهاد في سبيل الله، ويسلِّط الضوءَ على أهمية الاهتمام بروضات الشهداء، إحياءً لقدسية الجهاد، وفضيلة الشهادة، وهكذا يصنع المربون للأجيال؛ إذ يدلونهم على الاهتمام بما يربي فيهم خصال الكمال، وفضائل الأعمال. وإصلاحها لقبور الشهداء ورمُّها لها بقدر ما يشير إلى اهتمامها بهم وبقضيتهم، يشير أيضا إلى مهاراتها المتنوعة في حياتها الاجتماعية.

وهكذا لا تعدَمُ المجاهدة اليوم المواقفَ والأنشطة والأعمال التي يتطلَّبها إحياءُ قضية الشهداء وما استُشهِدوا عليه؛ لكي تكون فاطمية الوجدان، زهرائية السلوك.

أم أبيها .. ولماذا؟

أضفي على هذه المرأة الاستثنائية كنية استثنائيّة وفريدة لم نعهدْها لامرأة أخرى؛ إذ كناها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والدُها بـ(أم أبيها)، وروي ذلك عن الباقر عليه السلام، قال النووي في كتاب تهذيب الأسماء واللغات: وذُكِر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كناها أم أبيها، وقال: "فيه ما ينوِّه بمقامها غاية التنويه"، إلى قوله: "فحيث نزَّلها أكرمُ الخلائق من نفسه الكريمة منزلة أكرم الخلق عليه"( ).

غير أن تنزيله صلى الله عليه وآله وسلم لها في الحديث المشهور (فاطمة بضعة مني)، أو (فاطمة شجنة مني)، ليس أقلَّ من هذا التنزيل؛ حيث نزّلها هناك كجزء من نفسه، وهو النبي المرسل، الذي لا ينطق عن الهوى، فهل أراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون هذا وصفا شرعيا يترتَّب عليه أحكامٌ أخرى؟

قبل أن نحاول الإجابة على ذلك نجيب على السؤال القائل: لماذا قال عنها: (أم أبيها)، ولم يقل: (أمي)، أو (أم محمد)، أو (أم الرسول) أو (أم النبي)، ويبدو أنه إنما أراد القطع على سؤالِ الاستغراب القائل: كيف تكون أم محمد، أو أم الرسول، وهو في الواقع أبوها؟

إن علاقة فاطمة بوالدها الرسول علاقة مزدَوَجة؛ ففيها من الحيثيات ما جعلها ابنته، وهذه هي الحقيقة العرفية والشرعية، وقد أرادها في محطات كثيرة أن تكون ابنته كذلك، ولكن فيها أيضا من الحيثيات الكثيرة ما يجعلها بمثابة أمه، أو مثلَ أمه صلوات الله عليهم أجمعين.

كثيرٌ من تصرفاتها معه تشير إلى حنانها وعطفها عليه كحنانِ وعطفِ الأمهات على أولادهن، فقد كانت تهتم به اهتمام الأم بولدها، فمنذ أيام طفولتها كانت تدفع عنه أذى المشركين، وتخفّف آلامه وتضمد جروحه، وتمسح الدم عن وجهه في الحرب، وإذا عاد من سفرٍ بادرت إلى استقباله واعتنقته وقبّلت بين عينيه، وكانت تتأثر لحاله وتحنو عليه( ).

"لقد شاهد الناسُ هذه البنتَ الصغيرة، وهي تقف إلى جانب أبيها البطل، تزيل عنه الأذى، وتنثر مقلتاها أمزانَ القلق على مصيره، وتتحرك بلطف مواسيةً له في المصاعب كلها، بكلمات وتصرفات بريئة وحنونة، بروعة وجمال وجلال"( ).

في غزوة أحد أسرعت إليه فضمدت جروحه، ومسحت عن وجهه الدم( )، ولما ندم المشركون أنهم لم يقضوا نهائيا على المسلمين بعد هزيمتهم، وأزمعوا العودة، نزل أمر الله للمسلمين بالإسراع في مواجهتهم على ما بهم من الجراح وفراق الشهداء، وهنا بادرت (أم أبيها) لتجهيز (ولدها) بالسلاح، وأعدَّته له، كفعل المؤمنات اليوم مع أبنائهن وهن يجهزْنَهم إلى الجبهات.

وكانت تُقْبِل عليه بأقراصِ الخبز إذا جاع، كما فعلت يوم الخندق( )، وفي فتح مكة ضَرَبَتْ له خيمتَه، وهيَّأت له ماءً للاستحمام والاغتسال ليزيل عن جسده غبار الطريق، ويرتدي ثيابا نظيفة يخرُج بها إلى المسجد الحرام( ) كما تجهِّزُ الأمُّ ولدَها.

وكان إذا عاد من سفره بادر إلى بيتها، فتتلقاه على باب البيت، وتبكي إذا رأته "شعِثا نصِبا، قد اخلولقَتْ ثيابُه"، فكان رسولُ الله يطمئِنُها، وقد قال لها مرة: "لا تبكي، فإن الله قد بعث أباك بأمرٍ لا يبقى على وجه الأرض بيتٌ ولا مدرٌ، ولا حجرٌ، ولا وبرٌ، ولا شعرٌ، إلا أدخله الله به عزا أو ذلا، حتى يبلغ حيث بلغ الليل"( )، ولكأنه هنا يخاطب بهذه الكلمات أمهات المجاهدين الذين يبتغون العزة من الله لا من أعدائه.

ومنذ توفي صلى الله عليه وآله وسلم ما رؤيت ضاحكة ولا متبسِّمة، إلا يومَ صنعت لها أسماءُ بنتُ عميس النعْشَ قُرْبَ وفاتها( )، وسمعت بلالا يؤذِّن حتى إذا بلغ: (أشهد أن محمدا رسول الله) شهقت وسقطت لوجهها وغشي عليها حتى ظن أنها فارقت الحياة( )، وقيل: إنها كمدت عليه، فلم تلبث بعده إلا قليلا( ). ويحمل أيضا على أنها كمدت على ما أصاب الإسلام من مخالفات خطيرة.

وكانت تتمثل بعد وفاته بـهذه الأبيات:

 قد كان بعدك أنباء وهينمة

            لو كنت شاهدها لم تكثر الخطبُ

 

إنا فقدناك فقدَ الأرضِ وابلَها

            واختلَّ قومُك فاشهدْهم فقد نُكِبوا

 

فسوف نبكيك ما عِشْنا وما بقيَتْ

            من العيون بتهمالٍ له سُكُبُ( )

 

هذه مواقف ومصادر توحي بأن فاطمة الزهراء بالفعل هي (أم أبيها).

غير أن أمرا هاما يجب التركيز عليه في مصداق هذا اللقب، ولعله هو المقصود منه صلى الله عليه وآله وسلم، حيث تعيدنا سببية نزول (إنا أعطيناك الكوثر)، من أنها نزلت عليه حين عيَّره العاص بن وائل السهمي بأنه أبتر، ليس له ذكور، فرزقه الله هذه الأنثى التي منها الذرية الكثيرة والمباركة، والتي سماها القرآن الكوثر، والذي يعني الكثرة والامتلاء والبسط والامتداد والحياة المستمرة، وهذا لم يحصل إلا في ذريته منها سلام الله عليها.

ذكر السيد العلامة الحجة مجد الدين المؤيدي تفسيرا لطيفا دلالة لكنيتها (أم أبيها)؛ إذ قال: "وإذا كانت فاطمة بمنزلة الأم كان المختار بمنزلة الولد، فيكون عقبُها كما لو كانت أُمًّا له صلوات الله عليه وآله وسلم، وأعقبت منه، فإن أولاده حينئذ أولادها لا محالة، وهذه دقيقة جليلة"( ).

ويشهد لذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم إلا ابني فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما)، وفي رواية (إلا بني فاطمة فأنا وليهم وعصبتهم)، وفي أخرى: (إلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم)، وفي رواية: (ما خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم)( ).

قال في الروض النضير بعد أن ساق الأخبار الدالة على أبوة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لولد فاطمة عليها وعليهم السلام: "قال بعض المحققين من العلماء: ظاهرُ كلامِ أئمتنا أنه حقيقة، وأن حكمه في ذلك يخالف حُكْمَ غيره ... ويدل على كونها حقيقة قولُه صلى الله عليه وآله وسلم: (وأنا عصبتهما)( ).

وقد جعل القرآن الكريم ولد البنت عيسى بن مريم عليها السلام من ذرية إبراهيم عليه السلام؛ إذ قال: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾[الأنعام:84].

إن هذا هو تفسير (أم أبيها)، فتلك الأنثى التي ابتدأت بأنها (بنت محمد)، انتهت وانتهى بها الإسلام إلى أن تكون (أم أبيها) محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وليكون أعلام الهدى وأئمة الجهاد والتقى من أهل بيته قرناء القرآن، والثقل الأصغر من ذريته؛ إذ هم من ذريتها.

وبهذا يكون الله قد حفظ ذريته صلى الله عليه وآله وسلم في ذريتها، وجعل عقبه من عقبها، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري)( ).

وبعد هذا أليست الزهراء (أم أبيها)؟

زوجة علي عليه السلام

لم تكن فاطمة تلك المرأة التي صادفَتْها تلك المميزاتُ العظيمة وهي تنحشر في زاوية من بيت أبيها تعبد الله، ولا تريد أن تعالِج شأنا من شؤون الحياة، عازفة عن الزواج، راغبة عن مسؤولية الزوجية، والأمومة؛ لأن تلك هي الرهبانية التي لا يعرفها دين أبيها، وهي نوعٌ من أنواع الهروب من المسؤولية العبادية والجهادية في الإسلام.

لقد كانت فاطمة زوجة وأما وحماة مثلما كانت بنتا لأبيها وأما له أيضا، وكانت عضوة فعالة في مجتمع الإسلام؛ لذلك لا غروَ أن استحقت أن تصل إلى مرتبة السيادة على نساء العالمين، وعلى نساء الأمة ونساء أهل الجنة.

بلغت الزهراء في المدينة مبلغ النساء الصالحات للزواج، وتجاوز سنها خمسَ عشرة سنة، وهنا لو بحث الناس حينها عن الزوج المناسب الذي يصلح لفاطمة وتصلح له حق البحث لما وجدوه إلا عليا %، وهو ما أمر به الله تعالى، لتضيف فاطمة بنت محمد إلى أوصافها الجليلة: (زوج علي)، ثم (أم الحسنين وزينب).

إنه لجدير ببنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون زوجة علي عليه السلام، غير أنها في كل الأحوال يجب أن تبقى (أم أبيها) لتكون أم أبنائه الميامين.

الكثير من الصحابة توقَّع أن هذه العقيلة المحمدية لا تصلح إلا لذلك الفتى الطالبي، وهو الفتى الذي طالما أظله ظلال بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم منذ وقت مبكِّر، وتغذَّى فيه بغذاء العقل والروح بجانب غذاء البدن، وما توقَّعه الكثير فقد باركه الله أيضاً.

في ليلة الإسراء في السنة 11 من البعثة، أعلم الله نبيه بأن خليفته هو علي عليه السلام، وأنه أبو سبطيه، وزوج فاطمة خير نساء العالمين( )؛ ولهذا ما إن بلغت فاطمة مبلغ الزوجات حتى بادر إلى خطبتها كبارُ صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم أبو بكر، وعبدالرحمن بن عوف، وعمر، وعددٌ من أشراف قريش( )، لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرهم أن هذا الزواج من شأن العناية الإلهية، فقال لهم: (أنتظر القضاء)( ).

ويبدو أن الحياء، وقلة ذات اليد، وتهيُّب مفاتحة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو ما منع عليا عليه السلام من طَرْقِ باب المصطفى خاطبا لهذه الشريفة المطهرة، ولما ردَّ رسولُ الله أشرافَ قريش تأكَّد أن عليا هو الاختيار المناسب لفاطمة عليها السلام؛ لذا حرَّض البعضُ عليا عليه السلام على التحرُّك لخطبة فاطمة ‘ ( ).

ويبدو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قد أرسل رسائل صريحة مهّدت الطريق لعلي عليه السلام، عقب نزول أمر الله بتزويج فاطمة منه، فقد روى عبدالله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الله أمرني أن أزوِّج فاطمة من علي 6)( )، وروى الإمام علي عليه السلام في حديثٍ صحيحٍ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أتاني مَلَكٌ، فقال: يا محمد إن الله تعالى يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إني قد زوَّجت فاطمةَ ابنتَك من علي بن أبي طالب في الملأ الأعلى، فزوِّجْها منه في الأرض)( )، وأراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيِّن موقفه في ردِّه للخطاب، لما قال صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الإمام علي عليه السلام نفسه: (إنما أنا بشر مثلكم أتزوَّج فيكم وأزوِّجكم، إلا فاطمة، فإنها نزل تزويجها من السماء)( ).

إذن لم تكن المسألة خاضعة للاختيار البشري، بل هناك عناية إلهية خاصة بهذا البيت وتهيِئته لمهماتٍ جسام، وأعمالٍ عظام، إنها استثنائية فاطمة، وبيتها الذي أجرى الله منه كوثر المصطفى، وأخرج أعلام الهدى ليقيموا منار الحق، ويعلنوا أحكام القرآن على مدار الأزمان، إنه اختيار الله عز وجل وقضاؤه وخيرته، وآية كونه زواجا إلهيا جلالة بساطته، وعِظَم أخرويته، إنه زواج النبيين والصديقين والمجاهدين.

....

سنها عند الزواج؟

تفاوتت الروايات والمصادر حول تحديد سن زواج فاطمة ‘، وأغربُها تلك التي ترجِّح أنها زُوِّجت في السنة الثانية من الهجرة، بينما تحدِّد سنَّ ولادتها بالسنة الخامسة للبعثة، وهذا يعني أنها تزوجت وعمرها تسع سنوات تقريبا، وأنجبت الحسن عليه السلام، وعمرها عشر سنوات، وهناك رواياتٌ تجعل ولادتها قبل البعثة بخمس سنوات، وعليه فسن زواجها يكون تسع عشرة سنة تقريبا، غير أن ما يترجح لدى الباحث هو أن عمرها كان خمس عشرة سنة تقريبًا؛ لعددٍ من الأدلة والقرائن.

أولًا: لأنه لن يبادِرَ الخطّابُ إلى خِطبة صبية صغيرة، كما لن يتأخَّروا على عقيلة محمدية كفاطمة سنة أو سنتين من بعد بلوغها خمس عشرة سنة، وكنا قد رأينا كيف أن كبارَ أشراف قريش بادروا لخطبتها، وسارعوا إلى التشرف والفوز ببنت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ثم تحدِّدُ بعض المصادر الموثوقة سنَّها كما ترجح لدينا، وهو خمس عشرة سنة، ففي رواية عن الإمام القاسم بن إبراهيم أن عمرها كان أربعَ عشرة سنة( )، لكنه يحمَل على سن خطبتها وليس البناء بها، وأن البناء لم يتم إلا وهي في خمس عشرة سنة، ويرجِّح ذلك أنه تم في روايةٍ تحديدُ عمرها تحديدا دقيقا، وهي خمس عشرة سنة، وخمسة أشهر، ونصف( )، وإذا كانت قد توفِّيَتْ وعمرُها ثلاثٌ وعشرون سنة، بحسب رواية الباقر عليه السلام، وأن الإمام عليا عليه السلام بنى بها في السنة الثانية من الهجرة؛ فهذا يعني أن عمرها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر تقريبا كما ذُكِرَ في تلك الرواية المفصَّلة، وكما أكَّدَتْ ترجيحَ ذلك قرائنُ مرَّ ذكرها في مواضع متعددة.

وهكذا يكون الإمام عليه السلام خطبها في صفر سنة 2 من الهجرة، لكنه بنى بها بعد معركة بدر بأربعة أشهر في ذي الحجة( ).

خِطبتها

انطلق الإمام عليه السلام ليخطب فاطمة وكانت قد حثَّته مولاةٌ لهم قائلة له: إن فاطمة قد خُطِبَت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما يمنعُك أن تخطبَها؟ قال: فقلت: وعندي شيء أتزوَّجُها به؟ فقالت لي: إن أتيتَه زوَّجك، فما زالت توبِّخني حتى أتيتُه، فدخلْتُ عليه، فقال لي: (ما جاء بكَ وما حاجتُك؟ لعلَّك جئْتَ تخطبُ فاطمة؟) قال: قلتُ: نعم يا رسول الله( ).

ولا تحكي الروايات التي اطَّلَعْتُ عليها أيًّا من الأغرام أو التكاليف التي أرْهقَ أهلُ هذا الزمانِ عاداتِهم الاجتماعية بها بما صعَّب الزواج وبعّده، بل تحكي التيسير والتسهيل لبناء بيوتِ العفافِ والطهارة، وهو ما يتناسب مع التعاليم التي أطلقها الإسلام، وحث عليها في التيسير والتسهيل وقلة المؤنة.

...

إيذانها

عن عطاء بن أبي رباح، قال: لما خطب علي فاطمة 6 أتاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: "إن عليا قد ذكركِ"، فسكتت، فخرج فزوَّجه بها( ).

وهذا درس هام يجب أن يتعلمه الأهلون عند تزويج بناتهم، فعلى الأب أن يستأمر ويشاور ابنته؛ لأن هذه حياتها، ولها الحق في تأمين حياتها بما يتناسب والقيم والمبادئ الإسلامية العادلة، كما للولي الحق في ترشيد عملية الاختيار على ضوء تلك المبادئ أيضا، وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشاور فاطمة التي قد أمر الله عز وجل بتزويجها، تعليما لأمته أن يسلكوا الطريق المرضي والآمن في هذا الجانب من الحياة.

....

مهرها

وهاكنَّ مقدار مهر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيدة نساء العالمين، أيتها الأخوات والبنات، لتعلمن هديَ المصطفى في مهر بنته الحوراء سيدة نساء الدنيا والأخرى، وأن البركة في أقلِّ النساء مؤنة ومهرا، كما ورد عن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله الطاهرين.

هناك روايات تذكُر أن مهرها كان أربعَ مئة مثقال فضة( )، وقيل: اثنا عشر أوقية فضة، أي 480 مثقالًا، غير أن الصحيح عند أهل البيتآ هو أنه كان اثني عشر أوقية ونصف أوقية، تبلغ 500 درهم( )، والدرهم هو مثقال فضة.

وهذا الصحيح في مرويات أهل البيت % هو أكثر ما ذكرته كتب التاريخ من صداق فاطمة ‘؛ فقد روي أنه لما جاء علي عليه السلام قال له: أعطِها شيئا، فقال: ما أجِدُ شيئا، قال: فأين درعك الحطمية( )، التي سلَّحْتُكها؟ فقال: هي عندي( )، فأمره ببيعها، فباعها باثنتي عشرة أوقية( )، وفي الرواية الصحيحة أيضا: أن صداقها كان جُرْدَ بُرْدِ حِبَرَة( ) ودرع( )، والدرع هو تلك الحطمية، وبهذا يتبين أن الـ (12.5) أوقية، والتي تساوي خمس مئة درهم هي مجموع ثمن بيع البُرْد والدرع.

قال الإمام علي عليه السلام: (أنكحني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنته فاطمة على اثنتي عشرة أوقية ونصف من الفضة)( ).

إن قلة المهر أدب من آداب الإسلام، وها هي فاطمة ‘ وهي سيدة النساء، ومثلُها جميعُ زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان مهرُهن ذلك المهرَ الذي لم يتجاوزْ الـ(500) درهم( )، أي بما يساوي 20 ألف ريال يمني تقريبا، قبل حوالي 15 سنة مثلا، يوم كان القرش الفرانسي بـ500 ريال يمني( ).

ولا يعني قلة المهر بأي حالٍ من الأحوال بخسَ المرأةِ لحظها، كما ليس في المغالاة في المهور أيُّ تكريم لها؛ وصدق الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني (ت411هـ) إذ يقول: "وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوّج ابنته فاطمة على صداقِ خمسِ مئةِ درهم، وهي سيدة النساء، وقد علمنا أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليبخَسها حظها"( ).

....

خُطبة العقد

جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمعا من أصحابه ليُشْهِر فيهم عَقْدَ زواج علي% من فاطمة، وخطب صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (الحمدلله المحمود بنعمته، المعبود لقدرته، المطاع لسلطانه، المرهوب من عذابه، المرغوب إليه فيما عنده، النافذ أمرُه في سمائه وأرضه، ثم إن الله عز وجل أمرني أن أزوِّج فاطمة من علي، فقد زوَّجتُه على أربعِ مئة مثقال فضة( )، إن رضي بذلك علي)، وكان علي عليه السلام غائبا في حاجة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ثم دعا بطبق فيه بُسر، فقال: (انتهِبوا)، وبينما كان الحاضرون ينتهِبون إذ دخل علي عليه السلام فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا علي أما علِمْتَ أن اللهَ أمرني أن أزوِّجَك فاطمة، فقد زوجتُكها على أربعِ مئةِ مثقال فضة إن رضِيْتَ)، فقال عليه السلام: رضيتُ عن الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (جمع الله شملَكما، وأسعَد جدكما، وأخرج منكما كثيرا طيبا)( ). قال أنس: والله لقد أخرج منهما الكثير الطيب( ).

....

جهاز بيتها

من المهم جدا أن تعرف المرأة المسلمة اليوم ما هو الجهاز الذي جُهِّزَ به بيت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وبنتُ خيرِ النبيين، وزوجةُ سيد الوصيين، وأم سيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين.

لقد جُهِّزَ بيتها سلام الله عليها بخميلٍ( )، وقِرْبة من جِلدٍ للشُّرب، ووسادة من أدَمٍ (جلد) حشوُها ليفُ إذخَر( ). أما الفراش فقد كان جلدَ كبشٍ، كانا يقلِبان صوفَه فيفترشانه( )، وكان هذا الفراش له عددٌ من الوظائف فكانا ينامان عليه الليل، ويعلِّقان عليه الناضح في النهار( )، وربما عجنت على طرفه الزهراء كما سيأتي.

وأما (موكيت) بيتِهم فلم يكن سوى رمْل من بطحاء الروحاء جاؤوا به فبسطوه في البيت، بالإضافة إلى كُوزٍ وجرَّة، ورحاءٍ، وسقاء( )، وكان أبوها صلى الله عليه وآله وسلم قد قبض دراهم من مهرها وأمر بأن يُشْتَرَى لها طيب( ).

وعُرِضَ عودٌ في جانبِ بيتِ علي عليه السلام ليُلْقِيَ عليه الثوبَ، ويُعَلِّقَ عليه السقاء( ).

وكان هذا دأب أبنائها من أعلام أهل البيت عيهم السلام؛ فهذا الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام، كان يفْتَرِش بساطا خلِقا( )، فقيل له: لو أخذت بساطا جديدا، فقال: لو شئْتُ أن يكون بساطي من ذهبٍ لفعلْتُ، ولكن لنا أسوة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، جهَّزَ ابنتَه سيدة نساء العالمين، ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوجة سيد الوصيين بوسادة من أدَم، حشوُها ليف، وإهاب كبش، كانت فاطمة ‘ تعجن على ناحية، وينامون على ناحية، وأمر صلى الله عليه وآله وسلم أن يُنْثَر في بيتهم ليلةَ بنى عليعليه السلام بها من بطحاء الروحاء( ).

هذا هو بيتُ فاطمة ‘، لتتعلم منه المرأة اليوم دروس العزة والكرامة، وكيف تُصْنَعُ السعادة والعظمة من البساطة والقناعة، وفي ذلك حلٌّ كبير لمشاكل اجتماعية جمَّة، نتجت عن الصعوبات التي وَضَعَتْهَا انحرافاتُ الوعي الاجتماعي الإسلامي اليوم، وكانت ولا زالت تهدِّد نسيجَ الأمة وتماسكها.

في هذا البيت البسيط والمتواضِع بهذا الجهاز كان يبتهِج سيدُ الأنبياء والمرسلين، وسيدُ الأوصياء والمتقين، وفيه الزهراء، سيدة نساء العالمين، وفيه وُلِدَ وتربَّى سيدا شبابِ أهلِ الجنة، وزينب الكبرى، وأم كلثوم بنتا الزهراء، وهو البيت الذي كان يمر عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فجْرَ كلِّ يومٍ لعدد من الشهور، إذا خرج لصلاة الصبح، فينادي: (الصلاة الصلاة  ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾[الأحزاب:33])، وهو البيت الذي لكرامة الله أمر بسد أبواب بيوت الصحابة المشرعة إلى المسجد إلا بابه.

فهل ترون أيها الأزواج .. وهل ترين أيتها الزوجات .. هذا الجهاز المتواضع قَصُرَ بهذا البيت عن أن يبلغ قمة الشرف، وغاية السعادة؟!.

....

وليمتها

أولم علي عليه السلام في عرس فاطمة تلك الوليمة، التي لا مراءاة فيها ولا مكاثرة، وظلَّت تلك الوليمة أفضلَ الولائم في نظرِ مَنْ حضرها من الصحابة، كما روي عن بنت عميس( )، وجابر الأنصاري( ).

ذهب الإمام عليه السلام ليَرْهَنَ دِرْعَه عند يهودي في شَطْرِ شعير( )، واستعدَّ بعضُ الصحابة من الأنصار للتعاون في هذه الوليمة، فقال سعد: عليَّ كبشٌ، وقال فلان: عليَّ كذا، وقال فلان: عليَّ كذا( )، وجمعَ له رهطٌ من الأنصار آصُعا( ) من ذرة( ).

كان عماد تلك الوليمة كما في رواية عند أهل البيت آ - الحيس( )، وهو طعامٌ يُتَّخَذُ من التمر، والإقط، والسمن، وقد يستعاض الإقط بالدقيق أو الفتيت، وهو طعامٌ كانت المدينة تتكفَّل بموادِّه الأساسية، كالتمر، والسمن، أو الإقط، والفتيت، والدقيق.

غير أن هناك روايات تُثْبِتُ أن هناك أصنافا أخرى في الوليمة، ومنها الزبيب( )، وورد أن وليمته كانت آصعا من شعير، وتمر، وحيس( )، ويظهر أن كبش سعد( ) بالإضافة إلى شاةٍ أمَرَ رسولُ الله بلالا بجلبها( ) كانا لحم هذه الوليمة، في أكثر الاحتمالات.

وحدَّدت بعضُ الروايات كمية المطعومات فيها بآصُع( )، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا المهاجرين والأنصار إلى وليمة ابنته، وأدخلهم دفعة دفعة، وببركته صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزةً له أكلوا وشبعوا جميعا، وإن كان كما يبدو لم يحضُرْ جميعُهم، بل حضر مَنْ كان قريبا من مكان الوليمة في بيت رسول الله( )؛ لأن المدينة كانت أحياؤها متوزعة بين منطقتي العالية والسافلة فيها.

وكانت هناك وليمة أيضا خاصة بالنساء خصوصا نساء الأنصار، فقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آصعا من تمر وشعير لإطعام نساء الأنصار منها( ).

هذه الوليمة على بساطتها وانتمائها الأصيل إلى الإسلام المحمدي، وعلى الطريقة النبوية لم يَنْسَها الصحابة، ولم ينسوا أجواءها الطيبة، ورائحتها الزكية؛ فقد قال جابر: حضرنا عُرْسَ علي وفاطمة، فما رأينا عُرسا كان أطيبَ منه، حشونا البيت طِيبا، وأُتِيْنَا بتمر وزبيب فأكلنا( ).

وبهذا يظهر أهمية التيسير في الولائم، واعتماد الأطعمة المتوفرة، مما يوفر موادَّها بلدُ العُرْس نفسه، كما يظهر أهمية التعاون بين المسلمين وإعانة بعضهم بعضا في مثل هذه المناسبات الاجتماعية.

زفافها

أمرَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بناتِ عبدالمطلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة وزفافها إلى بيت الزوجية، وأن يفرحن ويَرجُزْن، ويُكَبِّرْنَ ويُحَمِّدْنَ، ولا يقُلن ما لا يرضي الله، فارتجزت أم سلمة وعائشة وحفصة، ومعاذة أم سعد بن معاذ، وكانت النسوة يرجِّعْن أول بيت من كل رجز، ثم يكبرن، إلى أن دخلن الدار( ).

وكانت أم أيمن مولاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي مَنْ أمرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تدخُل مع فاطمة، وتبلِّغ عليا بأن لا يعجل حتى يأتيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما صلَّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العشاء أقبل بركوة كان فيها ماء، فدعا فيها، وقال ما شاء الله أن يقول، وتوضأ منه، ثم نضح بها بين ثديي فاطمة، وعلى رأسِها، وبين كتفيها، ثم قال: اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم، ثم نضح به عليا % على رأسه، وبين يديه، وقال: اللهم إني أعيذه بك وذرِّيَّتَه من الشيطان الرجيم( )، ثم دعا لهم قائلا: (اللهم بارك فيهما، وبارك لهما في شملهما)، وقال لعلي %: (ادخل على أهلك باسم الله والبركة)( )، وتذكر بعض الروايات أنه حين جمع بينهما دعا لهما، ولم يُشْرِك في دعائهما أحدا غيرَهما، فدعا لها ثم جعل يدعو له كما دعا لها( ).

وفي تلك الليلة لما بكت لفراق والدها ذكَّرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأهم مقاييسها في الرجال؛ إذ قال لها: (ما يبكيك يا بنية، قد زوَّجتك أقدمَهم إسلاما، وأحسنَهم خلقا، وأعلمَهم بالله تعالى)( )، وفي رواية: (زوْجُك سيدٌ في الدنيا والآخرة، وإنه أولُ أصحابي إسلاما، وأكثرُهم علما، وأعظمُهم حلما)( )، وهي مقاييس ومؤهِّلات فاضلة تنتمي لحياة الإيمان والتقوى، إنها الأكثرية في العلم، والسبق إلى الإسلام، وأحسنية الخلق أو أعظمية الحلم، وهو ما يجب أن تجعله فاطمةُ اليومِ في أعلى قائمة مقاييسها في الزوج الذي تريد أن تختاره شريكا لحياتها.

وقد زارهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صبيحة العرس، وقيل في صبيحة اليوم الرابع من العرس، فسأل عليا %: كيف وجدْتَ أهلَك؟ فقال: نِعمَ العونُ على طاعة الله، وسألها عن زوجها، فقالت: خير بعل، فقال: (اللهم اجمع شملهما، وألِّف بين قلوبهما، واجعلهما وذريتهما من ورثة جنة النعيم، وارزقهما ذرية طاهرة طيبة مباركة، واجعل في ذرِّيَّتهما البركة، واجعلهم أئمة يهدون بأمرك إلى طاعتك، ويأمرون بما يرضيك)( ).

ودخل عليهما يوما وهما يضحكان فلما رأياه سكتا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما لكما كنتما تضحكان، فلما رأيتماني سكتُّما؟)، فبادرت فاطمة، فقالت: بأبي أنت يا رسول الله، قال هذا - وأشارت إلى علي % -: أنا أحبُّ إلى رسول الله منكِ، فقلتُ: بل أنا أحبُّ إلى رسول الله منكَ، فتبسَّم رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (أنتِ ابنتي، ولكِ رقة الولد، وعليٌّ أعزُّ منكِ)، وفي رواية مخاطبا لعلي عليه السلام: (فاطمةُ أحبُّ إليَّ منكَ، وأنتَ أعزُّ عليَّ منها)( ).

خطابات القائد