وجبةُ طعام واحدةٌ باتت حلمًا مؤجَّلًا، ومعركةً ضاريةً يخوضها السكان المحاصَرون، بعدما سُحِقت خطوطُ الإمدَاد، وغابت المساعدات، وغرقت الضمائرُ في وحل بيانات التضامن العقيم والشجب والإدانة المصطنعة.

"هاكابي" السفير الأمريكي: إما أن ترحلوا وإما أن تموتوا

في زمن جريمة الإبادة الجماعية الممتدة، باتت "التكايا" الخيرية؛ آخر ما تبقى من ملامح الإنسانية في غزة، وربما مِنصات للنجاة المؤقتة، وموائد تُعَدُّ تحتَ سماء القصف، لا تكاد تُفتتح حتى يصيبَها صاروخٌ غادر، فيدفن معها الأملَ وفتاتَ الطعام.

في غزة -كما تقولُ وسائل الإعلام المختلفة- يشن الاحتلال حربًا على الخبز؛ يطارد قِدْرَ العدس، ويهدم قُدْرات الناس على البقاء، وباتت التكايا -مكانَ تحضير وتوزيع الوجبات الخيرية- أكثرَ أهميّةً من أي حدثٍ عالمي، وأكثر جذبًا من أية مباراةٍ نهائية؛ لأَنَّها ببساطة.. تُبقي الناس على قيد الحياة.

لكنهم يُترَكون جياعًا، بلا رحمة ولا طعام -بحسب تقاريرَ ميدانية- فالاحتلال لم يكتفِ بقتل الأطفال بالقنابل الأمريكية المحرَّمة، بل أوغل في تجويعهم عمدًا على مرأى ومسمع العالم أجمع، في محاولةٍ لفرض التهجير عليهم قسرًا.

كل تكيةٍ صامدة تُقصف، كُـلّ يدٍ حانيةٍ تُستهدف، وكل نيةٍ للرحمة تُجهَض على قارعة النفاق الدولي والتواطؤ العربي، غير أن سفير الولايات المتحدة لدى كيان العدوّ، الأمريكي الصهيوني "مايك هاكابي" بدا متعاطفًا لكن بطريقته الخَاصَّة، قائلًا: "سنكون سعداءَ إذَا أتيحت الفرصة لسكان غزة الذين يريدون المغادرة بمغادرتها".

تقارير منظمة "أوكسفام" الدولية كشفت خلال تقييمها الأضرارَ في البنية التحتية والمياه من آبار وخزانات، أن الاحتلال قام بتدميرها 100 % في شمالي غزة، و100 % في مدينة غزة، و81 % في خان يونس.

أخطر الكوارث الصامتة.. وكل 40 دقيقة يُقتَل طفل:

وسطَ الحصار المُستمرّ والانهيار المتسارع في القطاع الصحي، تواجه آلافُ الأُسَرِ الفلسطينية في غزة خطرًا متصاعدًا يهدّد حياة أطفالها ومستقبلهم، يتمثل في أزمة سوء تغذية حادة تُعد من أخطر الكوارث الصحية "الصامتة" التي تضرب القطاع.

بيانات وزارة الصحة الفلسطينية تشير إلى أن أكثر من 290 ألف طفل دون سن الخامسة في غزة باتوا بحاجة إلى تدخلات غذائية عاجلة، في حين تحتاج 150 ألف حامل ومرضع إلى مكملات غذائية ورعاية صحية متخصصة.

تقارير ميدانية تؤكّـد أن حالات سوء التغذية الحاد التي تصل إلى المراكز الصحية تتراوح شهريًّا بين 180 إلى 240 حالة، 60 % منها يُحوّل إلى المستشفيات؛ بسَببِ المضاعفات.

خبراء الصحة بدورهم، يحذرون من أن هذه المؤشرات تمثل "قنبلة صحية موقوتة"، خُصُوصًا أن نسبة الحالات المحولة إلى المستشفيات ارتفعت خلال الأشهر الأخيرة من 16 % إلى 60 %؛ ما يعكسُ تسارُعَ التدهور الغذائي في أوساط الفئات الضعيفة.

التقارير الميدانية لا تترك مجالًا للتشكيك: أكثر من 18 ألف طفل استشهدوا منذ 7 أُكتوبر، وارتقاء طفل كُـلّ 40 دقيقة، و908 أطفال لم يُكمِلوا عامَهم الأول، و311 استشهدوا قبل أن يتنفسوا حياةً حقيقية.

جريمة الإبادة تقتل امرأةً كُـلّ ساعة:

غزة اليوم لا تموت فقط بقصف الطائرات الأمريكية، بل بالجوع والحصار وبالصمت والخذلان، والدفع الأمريكي نحو التهجير، مجاعةٌ تجتاح كل القطاع، وأطفال يذبلون كالأزهار في مواسم القحط، وأُمهات ينتظرن الموت بجوار فلذات أكبادهن.

وبين ألم الفقد وقسوة الجوع ومعاناة النزوح، تعيش المرأة في غزة واقعًا إنسانيًّا يزداد مأساوية مع كُـلّ يومٍ يمر؛ فمنذ بدء حرب الإبادة، ارتقت أكثرُ من 12 ألفًا و400 امرأة، وفقدت أكثرُ من 14 ألفَ امرأة زوجهَا، بينما تواجه نحو 60 ألف سيدة حامل خطرًا حقيقيًّا؛ بسَببِ انعدام الرعاية الصحية.

المرصد "الأورومتوسطي" لحقوق الإنسان يؤكّـد أنّ جيش الاحتلال يقتل ما معدله 21.3 امرأة يوميًّا؛ أي ما يعادل امرأة فلسطينية كُـلّ ساعةٍ تقريبًا.

وقال المرصد في بيان اليوم الأحد: إنّ "المعدلات الصادمة وغير المسبوقة لقتل النساء في قطاع غزة تعكس نمطًا منهجيًّا من القتل الجماعي يستهدف الفلسطينيات عمدًا، ولا سيّما الأُمهات".

حيال ذلك؛ "على العالم أن يرفع كلمة (لا) كبيرة في وجه نتنياهو"، هكذا قالت حركة حماس، مؤكّـدةً أن مجرم الحرب نتنياهو يستخدم "حرب التجويع القذرة كسلاحٍ ضد الأطفال والمدنيين العزّل، ويمنع آلاف الشاحنات المتكدسة من الدخول إلى غزة، بينما يموت الأطفال جوعًا"، معتبرةً ذلك، "جريمة حرب مركَّبة".

حماس تشيرُ إلى أن "مواقف الدول العربية والإسلامية لا ترقى لحجم الكارثة التي تسببها حرب الإبادة"، والتطهير العرقي وجريمة التجويع في غزة، رغم أن الأونروا تقول مؤكّـدةً: إن "(إسرائيل) تواصل منع دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة منذ أكثرَ من 9 أسابيع".

مظلومية غزة عار على الإنسانية:

الحصار الصهيوني الشامل، المطبق على غزة ككفنٍ من نار، لم يُبقِ للناس إلا الهاوية، مراكز الرعاية أُغلقت، الأدوية مفقودة بنسبة 93 %، تطعيمات شلل الأطفال محظورة، والحوامل بلا عناية -وبحسب تقارير أممية- ما تبقى من الحياة في غزة، وجبة واحدة غير مكتملة يوميًّا، ومياه غير آمنة، وهزال ينهش أجساد الأطفال.

العدوّ الصهيوني -بدعم أمريكي سافر- يستأنف جريمة الإبادة لليوم الـ 583، والحصيلة ترتفع كُـلّ صباح: "25 شهيدًا بينهم 5 أطفال في قصف العدوّ على قطاع غزة منذ فجر اليوم الأحد، ووصل مستشفيات القطاع 19 شهيدًا و81 إصابة" خلال 24 الساعة الماضية.

وفيما ترتفع حصيلة العدوان إلى "52829 شهيدًا و119554 إصابةً منذ السابع من أُكتوبر للعام 2023م، كذلك "شهداء الجوع" صار لهم إحصاء: 60 حتى اللحظة.

غزة تُذبَح يوميًّا أمام أعين العالم، تقاوم وهي جائعة وتُقصَف دون أن تأكل، وتدفن وهي تتنفس، وبعد أن باتت مظلوميتُها عارًا على الأُمَّــة، وَالإنسانية جمعاء؛ هي لا تسأل الكثير.. فقط: "دعوها تأكل.. دعوها تعيش.. هي تعرف كيف تنتصر؟!".