&&vid&&

6  رمضان 1440 هـ  الموافق 11  مايو  2019م

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ ربِ العالمين، وأشهدُ أنَّ لا إلهَ إلا اللهُ الملكُ الحقُ المبينُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُه ورسولُه خاتمُ النبيين.

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ وباركت على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.

وارض اللهم بِرضاكَ عن أصحابِه الأخيارِ المُنتجبين وعن سائرِ عِبادِك الصالحين.

أيها الأخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

وتقبّلَ اللهُ مِنّا ومِنكم الصيامَ والقيامَ وصالحَ الأعمالِ، اللهم اهدنا وتقبل منّا إنكَ أنتَ السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.

استكمالاً لحديثِنا بالأمسِ عن المَشاهدِ التي قدّمها القرآنُ الكريمُ لواقع البشرِ في مرحلةِ الحساب في ساحةِ الحَشرِ يومَ القيامة، مما يتجلى في ساحةِ الحشر في يوم القيامة في مرحلة الحساب تتجلى أمورٌ مهمة جدا وفي مقدمتها أهميةُ الأعمال، الإنسانُ في هذه الدنيا قد يكونُ مستهتراً تجاه كثيرٍ من الأعمال، إما كثير من أعمالِ الشرِّ التي تشكلُ خطورةً كبيرةً عليهِ في عواقبِها ونتائجِها في الدنيا وفي جزائِها الكبيرِ في الآخرة، أو تجاهَ كثيرٍ من الأعمالِ المُهمة من الأعمالِ الصالحةِ من أعمالِ الخيرِ من المواقفِ المحسوبةِ له عند الله سبحانه وتعالى ولها أثرُها الطيبُ وأثرُها الإيجابي وأثرُها المفيد في الدنيا وجزاؤها العظيمُ عند الله في الآخرة، ولذلك الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (يس ـ 12)، يقول الله جل شأنه {إِنَّا نَحْنُ} الله ربُنا عظيمُ الشأنِ المحيطُ بكلِ شيء عِلماً أحصى أعمالَ هذا الإنسان، أحصى أعمالَ كلٍ منّا، وما قدَّمه كلُ واحدٍ منا قد أحصاه اللهُ بكل جزيئاتِه وتفاصيلِه ما قدَّم كلٌ منا، ليس هذا فحسب بل والآثار لكلِ عمل، كلُ عملٍ وله آثارُه في هذه الحياة، قد تكونُ آثاراً طيبةً وقد تكونُ آثاراً سلبيةً وسيئةً وخطيرة، والعملُ الذي آثارُه سيئةٌ تبقى الآثارُ بنفسِها محسوبةً على الإنسانِ ويُجازى عليها، وفي كثيرٍ من الأعمالِ ستكونُ الآثارُ ـ آثار الأعمال ـ أكثرَ أهمية وأكبرَ من مستوى العملِ بنفسِه، أثرُ العملِ في كثيرٍ من الحالاتِ أكبرُ من العملِ نفسِه، وهو الذي يجعلُ لذلك العملِ أهميةً معينةً أو خطورةً معينة، ولذلك هذه المسألةُ مهمةٌ جدا.

من أخطرِ الأشياءِ على الإنسانِ التقصيرُ في أعمالٍ أمَرَ اللهُ بها ودعا إليها، وللتقصيرِ فيها آثارٌ خطيرةٌ جداً، مثلاً عندما نُقصِرُ كمسلمين عِندما نُقصِرُ في النهوضِ بمسؤولياتنِا الكبيرةِ في الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المُنكرِ وإقامةِ العَدلِ وإحقاقِ الحق، التقصيرُ في النهوضِ بهذهِ المسؤوليةِ كم سيترتبُ عليهِ من كوارثَ في هذهِ الحياةِ من مَظالمَ من جرائمَ من مُنكراتٍ من باطلٍ؟، هذا يُحسَب، هذا يُحسَب لأنَّه نِتاجٌ لتقصيرٍ في مسؤوليةٍ أمَرنا اللهُ بها إلزاماً وأوجبَها علينا حتماً ثمَّ فرَّطنا فيها وقصَّرنا فيها وكانت نتيجةُ هذا التقصيرِ انتشارَ المُنكراتِ بشكلٍ كبيرٍ، ما كانت لتنتشرَ لو نَهضنَا بمسؤولياتِنا في الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر، انتشارَ الباطلِ على نحوٍ ما كانَ لينتشرَ لو نَهضنا بمسؤوليتِنا لإحقاقِ الحَقِ، انتشارَ الجرائمِ والمَظالمِ الرهيبةِ التي ما كانت لِتنتشرَ لو نَهضنا بمسؤوليتِنا في إقامةِ العَدل.

وفي واقعٍ كذلك تتجلى فيه الآثارُ وتَظهرُ فيه الفظائعُ للتقصيرِ والآثارُ الخطيرةُ للأعمالِ يتحسرُ الكثيرُ من الناسِ، ويَعبِّرُ القرآنُ عن ذلك التحسُرِ لدى البعضِ وهم يقولون {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} (الزمر ـ من الآية 56) {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (الفجر ـ الآية 24)، بينما في الجانبِ الآخرِ من فازَ بقيامِه بواجباتِه ومسؤولياتِه واستقامَ على مَنهجِ اللهِ سبحانه وتعالى يكونُ مُبتهجاً وحُسبت له آثارٌ عظيمة، آثارٌ طيبةٌ نتائجُ إيجابيةٌ، فهو ذلك الذي يُبادرُ بعدَ أن يستلمَ كتابَه بيمينِه {فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ} (الحاقة ـ من الآية 19)، في حالةٍ من الابتهاجِ والسُرورِ الكبيرِ جدا، والإدراكِ لقيمةِ تلك الأعمال، لأهميةِ تلك الأعمال، لأثرِ تلك المواقفِ، فحُسبت لهُ بحسابِ اللهِ الكريمِ العظيم الذي يُدركُ جلَّ شأنُه يَعلمُ خُبرَ هذا الإنسانِ وخُبَرَ كلِ عَمل، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (التغابن ـ من الآية 8)،  يُدركُ بمستوى وقيمةِ ومدى أهميةِ العملِ فيَحسِبُ للعملِ حسابَه بمستواهُ أيضاً من الأهميةِ وبآثارِه.

مما يتجلّى أيضاً في يومِ القيامة ـ في حالتين مختلفتين تماماً ـ الروابط فيما بين الناس، تتجلى حقائق مهمة عن هذه الروابط في اتجاهين:

الاتجاهُ الأول:

اتجاهُ الشتاتِ وتقطُّعِ هذه الروابط، وتَحوّلِ هذه الروابطِ إلى حالةِ عَداوات، وذلك في مَن اِلتئمَ شملُهم في هذه الدنيا واجتمعتْ كلمتُهم في طريقِ الباطل، أو في معصيةِ الله سبحانه وتعالى، أو في مواقفَ باطلةٍ وظالمةٍ وخاطئة، في يومِ القيامة تنتهي هذه الروابطُ وتتقطعُ هذه الأسبابُ والعلاقات، وتبدأُ الحالةُ حتى على مستوى الأسرة، الأسرةِ التي كانت ملتئمةَ الشَملِ في هذه الدنيا وفي هذه الحياة في صفِّ الباطل، أو في طريقِ الباطل، أو في المواقفِ الظالمة، أو في مَعصيةِ الله سبحانه وتعالى يُعبِّر القرآنُ عن هذه الحالة {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (عبس ـ 34،37)، حتى على هذا المستوى أو على هذه الحالةِ من الروابطِ التي كانت في الدنيا روابطَ أسرية، الأخُ مع أخيه، الابنُ مع أبيه، والأبُ مع ابنه، والإنسانُ مع أمِه وأبيه، مع زوجتِه، مع صاحبتِه، تنتهي تلك الروابطُ وتتفككُ وتتقطعُ تلك الأسباب، ويتشتتُ الشملُ شَتاتاً رهيباً وشتاتاً أبدياً، لا يلتئمُ الشملُ مرةً أخرى،.

في عالَمِ الآخرةِ الخاسرون والهالكون والخائبون سيعيشون في وضعٍ مُفككٍ لا روابطَ فيه، لا ينعمون بتلك الروابطِ التي كانت في الدنيا، الإنسانُ بمفردِه للأبد، له خُصومةٌ مع الجميع، وله عَداوةٌ مع الكل، ويَحسُ بأنّه لوحدِه، لم يعُدْ بينَه وبين أي أحدٍ أيُ رابطةٍ ولا أيُ علاقة.

على مستوى الأخلّاء الذين كانوا في الدنيا تربطُهم علاقةٌ حميمة من الصداقةِ الوثيقة، وكانت في إطارِ توجهِهم في صفِ الباطل، أو في موقفِ الباطل، أو على مَعصية الله سبحانه وتعالى تتحولُ إلى عَداوة، إلى كراهةٍ شديدة جدًّا، وتصلُ الحالةُ كما عبَّر عنها القرآن الكريم {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} (الزخرف ـ من الآية 67)، إلى هذه الدرجةِ تصِلُ إلى درجةِ العِداء والكراهةِ الشديدة، والبُغضِ الشديد، والنفورِ الشديد من بعضِهم البعض.

على مستوى الأَتباعِ والمَتبُوعين تصلُ الحالُ أيضاً إلى التبرؤ من بعضِهم البعض {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} (البقرة ـ من الآية 166)، فالمتبوعين لم يقدِّروا الجميلَ لأتباعِهم الذين اتبعوهم في الباطل، ناصرَوهم في هذه الدنيا في المواقفِ الظالمةِ والباطلة، وقفوا مَعهُم وفي صَفِّهم، أيَّدوهم وصفَّقوا لهُم وناصرَوهم وعاضدَوهم ومكَّنوهم، لم يَحسِبوا لهم جميلَ ما فعلَوه مَعهُم في الدنيا، وقد يكونُ الكثيرُ من الناس ـ من الأتباعِ ـ قاتَلَ مع أولئك المتبوعين الطُغاة، الجائرين، الظالمين، المُبطلين، أيدَّهم في الدنيا في كلِ مَحفل، في كلِ مَقام، في كلِ مَكان، بلسانِه، بكلماتِه، ناصرَهم، غَضِبَ من أجلِهم، ضحّى من أجلِهم، أنفقَ من أجلِهم، قدَّمَ الكثيرَ معهم، لا يقدِّرون لهُ جميلَ ذلك، يتبرؤون منه {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ}، وحسراتٌ شديدةٌ لأولئك الأتباعِ الذين قد يكونُ الكثيرُ منهم أيضاً لم يستفِدْ في هذه الدنيا إنما تحمَّل الكثيرَ من الأعْبَاء، وقدَّمَ الكثيرَ من التضحيات، وتكبَّد الكثيرَ من الخسائر، وفي الأخيرِ يتبرؤون منه يوم القيامة {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} (البقرة ـ الآية 167)، يتمنى الكلُ أنْ لو أمكنَ لهم أنْ يعودوا إلى هذه الدنيا ويعودَ الوضعُ إلى سابقِهِ ليتبرؤوا من أولئك المتبوعين ويتخلوا عنّهم، فيصلُ بهم إلى الخسارة، لأنّهم في الدنيا إنما اعتمدوا على نُصرتِهم ومَعونتِهم ومُتابعتِهم وتأييدِهم، فوصلوا إلى ما وصلوا إليهِ من مَكانةٍ وسُلطة أو نفوذٍ وتأثيرٍ في هذه الدنيا، ولكن لم يبقَ من ذلك إلا الحَسَرَات.

في مَشهدِ القيامة يُقدِّم القرآنُ الكريم موقفاً لربَّما سيكونُ من أكبرِ المواقف تأثيراً {وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً} (إبراهيم ـ من الآية 21)، الكلُ، الأتباعُ والمتبوعين، القادةُ وأنصارُهم، كلُ الذين ساروا في صفِّ الباطل وهُمْ كثيرٌ كثير، كم سيجتمعُ من قياداتٍ وزَعاماتٍ وملوكٍ وأمراء، وبكل المُسمَيات؟، وكم معهم من أتباع؟، {وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ} (إبراهيم ـ من الآية 21)، في ذلك المَشهدِ الرهيب، في ذلك المَقامِ العظيم يَتحسرُ بالدرجةِ الأولى وفي المقدمة مَنْ؟ الضعفاءُ، نسبةٌ كبيرةٌ من أنصارِ الباطلِ ومن أنصارِ الطغاة، ومِمن يتحركُ الباطلُ بجهودِهم وتضحياتِهم في هذه الدنيا، ويُمكّنون الطغاةَ والظالمين والجائرين والمُستكبرين، نسبةٌ كبيرةٌ من الجمهورِ والجنود، مَنْ هم؟ الضعفاءُ، مِن الضعفاءِ.

لو تأتي إلى أي طاغيةٍ في هذه الدنيا، إلى أي مُجرمٍ مُستكبر، إلى أي مُتفرعنٍ مُتجبر، تجد ما الذي مكَّنه، أو تنظر ما الذي مَكَّنه من ظلمِ عِبادِ الله؟ ما الذي ساعدَه على نشرِ الباطل والضلال؟ ما الذي ساعدَهُ في السيطرةِ والتحكمِ بِرقابِ عِبادِ الله؟ أكثرُ جنودِه مَن هُم؟ أكثرُ جُمهورِه المشايعين له والمؤيدين له والمُطبِّلين له والخاضعين له مَنْ هُم؟ الضعفاءُ.

الكثيرُ من الناسِ شعورُه بالضعفِ على مستوى القوةِ العسكرية، أو على مستوى القوةِ الماديةِ ضعيفُ الحالِ، فقير، أو ضعيفُ النفْسِ يَشعرُ بالضعفِ العسكري أمامَ قوةِ الآخرين، يُؤثر عليه هذا الشعور فيريدُ أن يكونَ في صَفِ أولئك الذين يرى فيهم أقوياء مِن الجبابرةِ، من الطُغاة، يرى فيهم أقوياءَ القوةَ العسكرية، أو القوةَ المادية، أصحابَ ثروةٍ وأموال، فيحاول أن يلتحقَ بصفِّهم ليكونَ قوياً معهم بقوتِهم، أو ليحصلَ على المالِ وسِعةِ الحالِ من خلالِ ما يَحصلُ عليه منهم، يومَ القيامةِ يتندَّمُ أولئك الضعفاءُ ويرون أنهم خَسِروا مرتين، خسروا في الدنيا، وخسروا في الآخرة {فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً}، كنا لكم في الدنيا تَبعاً، وبتبعيتِنا لكم ومناصرتنا لكم وتأييدِنا لكم بالقتالِ أو بالمَقال أو بالتضحيةِ بالمال وصلتم آنذاك إلى ما وصلتُم إليه من قوةٍ وقدرةٍ وسلطةٍ وتأثيرٍ وغيرِ ذلك، فهل ستقدِّرون لنا ذلك الجميلَ هنا؟، {مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَىْ} (إبراهيم ـ من الآية 21)، تُخفّفون عنّا من عذابِ الله ولو القليل {قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} (إبراهيم ـ من الآية 21)، حالةٌ رهيبة جدًّا، لا يُغنون عنهم شيئاً، ولا يَدفعون عنهم شيئاً، ولا يتحملون عنهم شيئاً، ولا يقدِّرون لهم ذلك الجميلَ، ويتبرؤون منهم، وتتحولُ الحالةُ إلى حالةٍ من العِداءِ والخِصامِ والكراهيةِ والألمِ والحَسرات الشديدة، وهكذا حسراتٌ كثيرةٌ تُحيط بأولئك كلِّهم، وقد يكون - واللهُ أعلمُ - من أعظمِ الحَسراتِ يومَ القيامة، ومن أشدِ حالاتِ الندَمِ يومَ القيامة هي حالة مَنْ؟ حالةُ المنافقين والمحسوبين على المسلمين، المحسوبين من صَفِّ المؤمنين، الذين كانت أُتيحتْ لهم في هذه الدنيا فرصةٌ أكثرُ من غيرِهم للنجاةِ والنجاح والفوز، عاشوا في جَوِ الإسلام بما يُتيحُ لهم فرصةَ الاهتداءِ والاستقامة، ولكن خَسِرُوا؛ لأنّهم اتجهوا في هذه الدنيا اتجاهاتٍ أخرى.

يقدِّمُ القرآنُ الكريم مَشهداً مهماً جدًّا لخسارتِهم وحَسرتِهم ونَدمِهم، والحالةُ التي يكونون عليها في يومَ القيامة في ساحة المَحشَر، الملائكةُ سيتجهون لإخراجِهم من صفِّ المسلمين، وطردِهم، ومَنعِهم من اللحاقِ بالمؤمنين، وهم في تلك الحالةِ يُحاولون بكلِ جهدٍ أن يَلحقوا بالمؤمنين، وأن يعودوا ليكونوا في صَفِّهم، وقد مُيِّزوا منهم، وأُخرجوا عنهم، وطُردوا من بينِهم، في تلك الحالة ـ وقد مُنعوا ـ ينادون أولئك المؤمنين {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} (الحديد ـ من الآية 14)، قد يكونُ البعضُ من أسرةٍ واحدة، وقد يكون البعضُ من قريةٍ واحدة، وقد يكونُ البعضُ من حارةٍ واحدة، ولربما كانوا يلتقون في المسجدِ الواحد، ولربما كانوا يلتقون في اليومِ الواحدِ لِمراتٍ متعددة، ويجلسون في بعضِ الحالات في المَجلِسِ الواحد، وهم في تلك الحالة قد طُردوا عنهم وفُصلوا عنهم، لإلحاقهم بمن؟ بالآخرين بالكافرين، {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ}، نداء بحسرةٍ، وبألمٍ، وبشدةٍ، وبكُربةٍ، وبهَمٍّ، وبِغَمٍّ، (أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ)، ألم نكن منكم في الدنيا مُسلمين نُصلي ونصومُ معكم في شهر رمضان؟، وكنا في القرية تلك أو في تلك الحارة نلتقي ونجتمع محسوبين على أننا أمةٌ واحدة؟ {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الحديد ـ 14-15)، حالةٌ رهيبة جدًّا، كنا في الدنيا أمةً واحدة، أمة لا إله إلا الله، محمد رسول الله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله، في بيئةٍ واحدة، مجتمعٍ واحد، مجتمعٍ واحد، ولكن كنتم في الدنيا تُعانون من هذه المشاكل، ارتياب، لا ثقةَ عندَكم باللهِ وبنصرِه وبتأييدِه، فلم تقفوا موقفَ الحقِ بجديةٍ ومصداقيةٍ اغتراراً بهذه الحياة، فكنتم تُؤثرون مصالحَكم الشخصيةَ على حِسابِ المواقفِ الحقِّ والمواقفِ الصحيحة، ومع هذا الاغترارِ بالشيطانِ الذي كان يُورطكم في إرضاءِ شهواتِكم ورغباتِكم على حسابِ الاستقامةِ الصادقةِ على مَنهجِ الله سبحانه وتعالى، فارتيابُكم وترَبُصُكم وأنتم تنتظرون ماذا ستكونُ نتائجِ الأحداثِ أبعدَكم عن المواقفِ الحق التي هي جزءٌ أساسيٌ من الالتزامِ الديني والإيماني، فانحرفتم في ولائِكم وفي مَوقفكم، وتخليتُم عن هذه الأمةِ وهي تعيشُ مِحنتَها ومشاكلَها وهمومَها وصراعَها؛ فاليومَ ستلحقون بأولئك، ولا تُقبلُ منكم فِديةٌ مالية، ولا يُمكنكم أن تقدِّموا أيَ شيء، أنتم في الدنيا آثرتُم مصالحَكم الشخصيةَ على حسابِ المواقفِ الحق؛ فلم تُفدْكُم تلك المصالحُ في تلك الظروف، حسرةٌ شديدةٌ لأولئك، ويُطردون، وتَكتملُ عمليةُ الفرز.

الاتجاه الثاني:

في المقابل الذين كانوا في اتجاهِ الحق وعلى طاعةِ الله حالةٌ مختلفة، لا يعيشون هذا الشتاتَ وهذه العَداواتِ على مستوى الأسرة، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} (الطور ـ من الآية 21)، الأسرة التي اجتمعت كلمتُها في الدنيا على طاعةِ الله وفي موقفِ الحق يلتئمُ شملُها مجدداً في الآخرة، مع شعورٍ بالفوزِ والراحةِ والسعادة، الذين كانت خُلّتهم في الدنيا، وصَداقتُهم في الدنيا، وأخوتُهم في الدنيا، وعلاقتُهم في الدنيا قائمةً على أساسِ التقوى، يلتئمُ شملُهم مُجدداً يوم القيامة، ولهذا عندما قال اللهُ سبحانه {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف ـ الآية 67)، فالمُتقون مَن تكونُ عَلاقتُهم في الآخرةِ بأعظمَ من عَلاقتِهم في الدنيا، وإخاؤهم وودُّهم ومحبتُهم فيما بينهم، وصَفاءُ نفوسِهم على بَعضِهم البعضُ في الجنّة، وبدءاً حتى من مَشهدِ القيامة، بأكثرَ ممّا كانَ في الدنيا بكثير، {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ} (الحجر ـ من الآية 47)، فهُم في حالةٍ من الإخاءِ والمحبةِ والأُلفة والانسجامِ والتفاهم بأكثرَ مما كانوا عليه في الدنيا.

الأتباعُ مع المتبوعين، المؤمنين الذين كانوا في هذه الدنيا اتَّبعوا أنبياءَ الله، وأولياءَ الله، والصِدِّيقين، والصالحين من عبادِ الله، يجتمعون بِهم وهُم في اغتباطٍ وارتياحٍ وسرورٍ وابتهاج، وقد اجتمعَ الشَملُ من جَديد، وتحرَّك الجميعُ في موقفٍ من السعادة، في جَمعٍ يسودُه الألفةُ والارتياحُ والشعورُ بالفوز، {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً} (النساء ـ الآية 69)، تبقى تلك الرِفقةُ وتتعززُ، ويجتمعُ الشملُ الكبيرُ، شملُ الأنبياءِ جميعاً، والأولياءِ جميعاً، والصالحين جميعاً، ويجتمعُ الكلُ في جوٍ عظيم.

تكتملُ عمليةُ الفرزِ حتى - كما قلنا فيما ذَكَرَهُ القرآن الكريم من داخلِ صفِّ المسلمين يُخرِجُ اللهُ بإرسالِه الملائكةَ لهذه المهمة ـ الفاسقين، والمنافقين، والمجرمين، والفجار، والعصاة، ويتمُ إخراجُهم من صفِّ المسلمين.

تكتملُ عمليةُ الفَرْزِ إلى طَيبٍ وخَبيث، يبقى الطيبون الذين كانوا مستقيمين، وطابت أنفسُهم وأخلاقُهم وأعمالُهم وسلوكياتُهم، واستقاموا على نَهجِ الله، وأنابوا إلى الله، ويتمُ إخراجُ الخبيث، كلِ خبيث، الذين خَبثوا في هذه الدنيا، خَبُثَتْ نفسياتُهم بأعمالِهم السيئةِ، بانحرافاتِهم، بمواقفِهم الباطلة، وكما قال الله جلَّ شأنه {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (الأنفال ـ الآية 37)، يمتازُ الخبيث، ويجتمعُ بكلِه، وينحازُ إلى مساحةٍ مُعينةٍ، إلى جهةٍ معينةٍ في ساحةٍ المَحشر، والطيبُ يَمتازُ لِحالِه.

تكتملُ عمليةُ الحسابِ والفصلِ بينَ العِباد، والمُحاكمةِ فيما بينَهم، وتَثبُتْ الملفاتُ التي أُعدَّتْ لكلِ إنسانٍ في صحيفةِ عَملِه، وتكتملُ العمليةُ في الحساب، ويكتملُ الدوام، اكتملَ الدوامُ والعمل، بقيتْ مرحلةُ الانتقالِ من ساحةِ الحساب، حيثُ تقرَّب جهنّم، وتقرَّب الجنة، {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} (ق ـ الآية 31)، {لِلْمُتَّقِينَ} لنلحظ أهميةَ التقوى، {غَيْرَ بَعِيدٍ}؛ حتى لا يحتاجون إلى سفرٍ بعيدٍ وتأخرٍ كبيرٍ حتى يصلون إليها، لا، {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} (الفجر ـ من الآية 23).

نتحدثُ عن انتقالِ أهلِ جهنّم إلى جهنّم على ضوءِ ما وردَ في القرآن الكريم.

 تبدأُ عمليةُ النقلِ الإجباري من ساحةِ الحساب، وآخرُ محطةٍ في ساحةِ الحساب هي لِخطابٍ يُلقيه الشيطانُ لأتباعِه، كلِ أتباعِه، أتباعه كُثُرٌ، العصاةُ الذين لم يُنيبوا، ولم يَتوبوا، ولم يَرجِعوا إلى الله، من كافرين، ومنافقين، وفاسقين، ومجرمين، بكل مُسمياتِهم المتنوعة والمتعددة، {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} (إبراهيم ـ من الآية 22)، اكتملت عمليةُ الحساب، لم يبقَ إلا الانتقالُ إلى جهنم، {إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} (إبراهيم ـ من الآية 22)، اللهُ وعدَكم في الدنيا وعداً لا يُخلفه أبداً، لو استجبتم له لَفُزتم ودَخلتم الجنّة، {وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} (إبراهيم ـ من الآية 22)، وعدتُكم وعوداً كثيراً في الدنيا، وأعطيتكم الأماني لمستقبلِ الآخرة، ولكن لا يتمُ شيءٌ من تلك الوعود، {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ}، أنا لم أُجبرْكم لتستجيبوا لي، فقط دعوة، دعاكم اللهُ ووعدَكم، دعاكم الشيطانُ ووعدَكم، الكثيرُ الكثيرُ استجابوا لدعوةِ الشيطان، وتحركوا في الاتجاهاتِ التي دعا إليها، {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} (إبراهيم ـ من الآية 22)، يتبرأُ منهم، يحُمِّلهم المسؤولية، يُوجِّه إليهم اللومَ، يقول لهم {فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم}، لأنكم أنتم من اندفعتم، وبادرتم، واستجبتم، وتحركتم، وفعلتم كلَّ ما فعلتم، أنتم الذين انطلقتم في ذلك، كم هي حسرتُهم؟ وينادي الله سبحانه وتعالى تلك الأعدادَ الهائلةَ من البشر، المليارات {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (يس ـ 60،62)، كم ستكون الحسراتُ النفسيةُ والعذابُ النفسي؟

تبدأُ عمليةُ النقل الإجباري إلى جهنّم؛ لأنّه لا رغبةَ لديهم في الذهابِ إلى جهنم، تجلّتْ عدالةُ الله سبحانه وتعالى، ثَبتتْ الملفات، تجلّى سُوءُ الأعمال، نتائجُها الفظيعةُ جدًّا، آثارُها السيئةُ للغاية، وتبدأُ عمليةُ النقل، يسُاقون سَوقاً إلى جهنَم، يتمُ نَقلُهم، اللهُ أعلمُ كيف هي الطريقة، كيف هي عمليةُ النقلِ بالتحديد؟! ولكن هناك طريقةٌ سينقلُهم اللهُ بها، و جِهةٌ ستتولى عمليةَ النقل، والملائكةُ الذين سيتحركون لنقلِهم غَصْباً عنهم على حسبِ تَعبيرِنا المحلي.

{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} (الرحمن ـ الآية 41)، نقلاً بالقوة، البعضُ يُؤخذون بنواصيهم، الناصيةُ مُقدمةُ شَعرِ الرأس، والبعضُ بأقدامِهم سَحباً، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} (الطور ـ الآية 13)، {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} (الزمر ـ من الآية 71)، يُساقون سَوقاً، {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} (فصلت ـ الآية 19)، في عمليةٍ من التنظيمِ والدَفعِ والسَوقِ لهم حتى يصلوا إلى مشارفِ جهنّم، تلك اللحظة التي يصلون فيها إلى مشارفِ جهنم، وجهنّم كما قالَ اللهُ عنها {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} (الفرقان ـ الآية 12)، حالةٌ رهيبةٌ من الخوفِ الشديد، لو بقيَ موتٌ لماتوا من الخوفِ الشديد، والحسراتِ والآلامِ والتغيّظِ والندمِ الشديدِ جدًّا، لأنَّ الإنسانَ يُدركُ أنَّه الذي أوصلَ نفسَه بنفسِه، وبتفريطِه، وبعصيانِه، وأنّها قد أُتيحتْ له الفرصةُ اللازمةُ ليفوزَ فلم يستغلْ تلك الفُرصة، وفرَّطَ هو، ورَّطَ نفسَه هو، يندمُ ندماً شديداً جدًّا.

عندَ الوصولِ إلى مَشارفِ جهنَم يحاولون أن يُنكروا، يُحاولون أن يتهربوا من أعمالِهم التي قد ثَبُتتْ عليِهم حتى في ساحةِ المَحشر، عندها يأتي الشهودُ {حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (فصلت ـ الآية 20)، تأتي أيضاً هذه العمليةُ من الإِشهادِ عليهم حتى من حَواسِّهم، وحتى بجوارحِهم وأعضائِهم تَشهدُ عليهم، حتى جلودهم، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} (فصلت ـ 21،22)، وتنتهي كلُ الأعذار وكلُ الحجج، لا يبقى للإنسانِ ما يقولُه أبداً، عندَ الوصول إلى بواباتِ جهّنم وهي كما قالَ الله عنها {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} (الحجر ـ الآية 44)، وهي دَرَكات، وكلُ جزءٍ منهم سيتجه إلى جانبٍ منها، أو دَرَكٍ من دركاتها والعياذ بالله.

عندَ الوصولِ تتعجبُ منهم خَزَنةُ جهنّم وملائكةُ جهنم، الذين يُديرون عمليةَ التعذيبِ في جهنم، وعندما تُفتح أبوابُها يقولُ لهم الخزنةُ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى} (الزمر ـ من الآية 71) قد أتت الرُسلُ، قد تُليت الآياتُ، قد بَلغَ ووَصلَ النذيرُ من هذا اليوم، لكن الغفلةَ، اللا مبالاة، التجاهل، {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك ـ 10،11)، حالة رهيبة جدًّا وحالةٌ خطيرة جدًّا، الإنسانُ عندما يصلُ، عندما تبدأُ الترتيباتُ للعذاب وللإلقاءِ به في نارِ جهنم، وأتى الأمرُ الإلهي {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} (الحاقة ـ الآية 30)، لأن جهنّم هي سجنٌ، سجنُ اللهِ الأكبر، والسجنُ الأبديُ الرهيبُ والفظيعُ جدًّا، الغَلُّ لليدين إلى الرقبةِ، {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} (الحاقة ـ 31،32)، يقيَّد الإنسانُ بالسلاسلِ والقيودِ الرهيبةِ جدًّا المُخصَصةِ لجهنم، ويَدخلُ إلى عالمٍ كُلُ ما فيهِ عذابٌ، كلُ تفاصيلِ الحياةِ فيه عذاب، عذابٌ رهيبٌ جدًّا.

حتى الملابس من العذاب، عندما يدخلُ الإنسانُ إلى جهنّم ما هي ملابسُه؟ في السجونِ تخصص أحياناً مَلابسُ لِلسُجناء، {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ} (الحج ـ من الآية 19)، ثوبٌ من النارِ مُفصَلٌ تفصيلاً على الإنسانِ ويَلبْسُهُ، أمرٌ شنيعٌ ورهيبٌ ومؤلمٌ جدًّا، ويحترقُ الإنسانُ به باستمرار، وأيضاً ما فوقَ الثوب، مثلاً في الدنيا مع الناس أكوات، جواكت، ملابس معينة، ماذا سيضاف إلى ذلك؟ {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ}(إبراهيم: من الآية 50)، يُفرِزُ الجسمُ قَطِرَاناً مع الاحتراق، حتى يتغطى بطبقةٍ من فوقِ الثوبِ الذي هو من النارِ يحترقُ بالإنسان، طبقة من القَطِرَانِ الشنيعِ الرائحةِ والقبيحِ المَنظر، قبيحِ المنظرِ جدًّا، ليست ثياباً جميلةً مثلما يحلو للناس في الدنيا.

العطشُ الشديدُ جدًّا في جهنم، في تلك البيئةِ الحارةِ التي كلُ ما فيها حارٌ حتى الأوكسجين، بدلَ ما يُقابِلُ الأوكسجينَ في الدنيا الذي يحتاجون إليهِ هناك في الآخرةِ هو السَمُومُ {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} (الواقعة ـ الآية 42)، السَمُومُ حَارٌ جدًّا، يستنشقونه، يدخلُ إلى داخلِهم وهو كُلهُ حارٌ للغاية، بيئةٌ حارة، كلُ ما فيها نار.

يعطشونَ جدًّا، عندَ العطشِ الشديد ماذا يقدَّمُ لهم؟ {وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ} (إبراهيم ـ من الآية 16)، يقدَّم له الصَديدُ الذي هو قبيحٌ وقذر، رائحتُه قذرة، منظرُه بشعٌ وقذر، طعمُه كذلك طعمٌ شنيعٌ لا يُستساغُ أبداً، حرارتُه عاليةٌ جدًّا، {يَتَجَرَّعُهُ} (إبراهيم من الآية 17)، لا يَشرَبُ منه بهناء، إنما يتجرعه جرعةً جرعة من شدة العطش، لأنه يُسلَّطُ عليهم العطشُ كعذابٍ شديد من أنواعِ العذابِ في جهنم، {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} (إبراهيم ـ من الآية 17)، {وَإِن يَسْتَغِيثُوا} (الكهف ـ من الآية 29)، أي من شِدةِ العطش، ويُطالبون بشدة، يبقى الإنسانُ فترةً طويلةً وهو في حالةِ عطشٍ شديد جدًّا، يتعذبُ به، ثم يستغيثُ ويستغيث، ويصرُخ، ويطالبُ أن يقدَّم له ما يشربُه، {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ}(الكهف: من الآية29)، ليس نقاياً، ليس صافياً ولا مبرَّداً، {يَشْوِي الْوُجُوهَ} (الكهف ـ من الآية 29)، إذا قُدِّم إليه ليشرب، ما إن يقتربَ منهُ ليشربَ منه حتى يشتويَ الوجهُ من حرارتِه تلك التي تتبخرُ إلى الوجهِ، {بِئْسَ الشَّرَابُ} (الكهف ـ من الآية 29)، ما أسوأهُ من شَراب، هو في شكلهِ كالمُهل، كحُثالة الزيت، هو في الوقتِ نفسِه بحرارةٍ شديدةٍ يشتوي منه الوجهُ، أمّا حينما يشربُه فما هو الحال؟ {وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} (محمد ـ من الآية 15).

الطعامُ ما هو؟ في الدنيا كانَ البعضُ يبيعُ دِينَه ومَوقفَه ويعصي الله سبحانه وتعالى ليحصُلَ على الوجباتِ الدَسمةِ، ما هي تلك الوجباتُ؟ {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} (الدخان ـ 43،46) الزَقّوم التي هي بشعةُ المنظر، {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} (الصافات ـ الآية 65)، وهي في مذاقِها ذاتُ مَرارةٍ رهيبةٍ وشنيعة جدًّا، وهي حارةٌ للغاية، لدرجةِ أنها تَغلي في بَطنِ الإنسان كالحميمِ الذي يُغلى على النار، هي الطعامُ الذي لا يُشبِع.

ثم غير الطعامِ والشراب، الاغتسالُ والاستحمام، البعضُ من المُترَفين الذين اتجهوا في هذه الدنيا في مواقفِ الباطل يذهبُ ليستحمَ ويتنظف، ويخرجَ ثم يلبسَ الملابسَ الجميلة، فماذا ستكون الحالةُ هناك؟ {خُذُوهُ} يقالُ لملائكةِ اللهِ من خَزَنِةِ جهنّم {فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ} (الدخان ـ الآية 47)، يُؤخذُ بعنفٍ وبقوةٍ إلى منطقةٍ في جهنّم، {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} (الدخان ـ الآية 48)، هذه "الترويشة" داخلَ جهنّم، أيضاً يقولُ الله {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} (الحج ـ 19،20).

أما المساكنُ فما هي؟ قصورٌ؟ فيلات؟ غُرفٌ فخمةٌ وجميلة؟ {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} (الزمر ـ من الآية 16)، حتى المساكن مساكن من النار ومن جمرها والعياذ بالله.

حالةٌ رهيبةٌ جدًّا، وجوٌ كلُهُ حارٌ، النيرانُ في كلِ مكانٍ مُستعرة، {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} (الواقعة ـ الآية 43) يُشاهدون ظِلاً في أماكنَ من جهنّم فيفرحون به، فإذا بهِ ليس إلا من دُخانِ جهنم {لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} (الواقعة ـ الآية 44)، حالةٌ رهيبة جدًّا، يبقى الإنسانُ فيها مُتعذباً، وهم فيما بينَهم في حالةِ خصامٍ من أولِ لحظةٍ يدخلونَ إلى جهنّم، {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ} (الأعراف ـ من الآية 38)، حالة رهيبة جدًّا، وحالةٌ من الخِصامِ والعذابِ والألمِ والصُراخ، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} (فاطر ـ من الآية 37)، في حالة من الصراخ الدائم، والتوجع الشديد، والصياح لآلامهم، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} (فاطر ـ من الآية 37)، لأن المشكلةِ هي في العمل.

{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} (المؤمنون ـ 107،108) ليس هناك استجابة، يَدعون الله، يستغيثون، يَبكون، يَتضرعون، يَصرخون ويَصطرخون، إنما يأتيهم هذا الجواب {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}، يتوسلون بالملائكة في جهنم {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ} (غافر ـ من الآية 49)، يطلبون تخفيفاً، إنْ لمْ يُمكن الخروجُ فالتخفيفُ ولو ليومٍ واحد، لا استجابةَ أبداً، يطلبون الهلاكَ والمَوتَ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} (الزخرف ـ الآية 77) يحاولون أن يَهربُوا، وأن يخرجوا،  {وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} (الحج ـ من الآية 22) بتلك المقامعِ والضربِ الشديدِ حتى يَعودوا إلى أماكنِهم، {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}.

إنَّ اللهَ جلَّ شأنُه قدَّم كلَ هذا التفاصيلِ وأكثرَ منها بكثيرٍ في القرآن الكريم لكي نأخُذَ العِبرَةَ هُنا، ووجَّه نداءَهُ لنا نحنُ الذين آمنوا، اللهُ يقولُ لنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم ـ الآية 6)، لكي نحذرَ هنا، لكي نتقيَ اللهَ هنا، لكي نعملَ الأعمالَ الصالحةَ هنا، هو جلَّ شأنُه الذي قدَّم لنا النذيرَ في هذه الدنيا، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} (الحجر ـ 49،50)، فدعانا إلى مغفرتِه وجَنتِه، وحذَّرَنا من عذابِه وسَخطِه.

والعملُ هو الذي يُحدد مَصيرَ الإنسان، إمّا العملُ الذي تَكسِبُ به مَغفرةَ اللهِ ورِضوانَه، وإما العملُ الذي يُوصلُك إلى جهنّم.

العملُ والمواقفُ، فلنتقي اللهَ، ولنحذرْ، ولنُجدّ، ولننتبهْ، ولنغتنمْ الفرصة، ولنتُبْ إلى الله، ولنُنِبْ إلى اللهِ، يحَرِصُ الإنسانُ عندَ كلِ زَلَّة، عند كلِ معصيةٍ أن يعودَ إلى الله، أن يتوبَ إلى الله، ويسعى بكلِ ما أمكن مع الدعاءِ، مع التضرعِ، مع الاستعانةِ بالله، مع طَلبِ التوفيق إلى الابتعادِ عن المعاصي، وعن المواقفِ الباطلة، وليحذرْ من التقصيرِ في المسؤولياتِ والأعمالِ العظيمةِ التي فيها الفوزُ والنجاة.

نسألُ اللهَ سبحانه وتعالى أن يُوفقَنا وإياكم لما يُرضيهِ عنّا، وأن يرحمَ شهدائَنا الأبرارَ، وأن يشفيَ جَرحانا، وأن يُفرِّج عن أسْرَانا، وأن يُثبِّتَ المُجاهدينَ ويُؤيدَهم ويَنصُرَهم، إنه سميعُ الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه

تغطيات