• العنوان:
    مسار "السلام" أم أوهام
  • المدة:
    00:00:00
  • الوصف:
    من شرم الشيخ إلى رفح.. اتفاق غزة يتحطم على صخرة النكث والخداع من قبل الاحتلال.
  • التصنيفات:
    مقالات
  • كلمات مفتاحية:

بينما تتهافت الأوساط السياسية والإعلامية العالمية للاحتفاء بتوقيع اتّفاق وقف إطلاق النار في شرم الشيخ، تثبت الوقائع على الأرض أن آلة الحرب والإبادة الصهيونية تواصل انتهاك الاتّفاقات بكل وقاحة، مكرِّسة نفس النهج القائم على المراوغة والخداع والابتزاز.

فإغلاق معبر رفح وتقليص المساعدات الإنسانية ليس سوى حلقة جديدة في مسلسل الضغط على الشعب الفلسطيني وحركة حماس، في محاولة يائسة لتعويض الإخفاقات الميدانية باستغلال الحصار الإنساني.

لقد جاء الاتّفاق بعد مسار طويل من المفاوضات الشاقة برعاية مصرية وقطرية، حَيثُ شهدت شرم الشيخ جولات مكثّـفة تم خلالها الضغط على جميع الأطراف للتوصّل إلى اتّفاق يوقف الحرب، وقد أكّـدت حماس منذ البداية على موقفها المبدئي بربط أي إفراج عن الأسرى بالانسحاب الإسرائيلي الكامل من قطاع غزة وضمانات حقيقية بعدم عودة العدوان.

لكن الكيان الصهيوني، وبمُجَـرّد الإعلان عن الاتّفاق، عاد إلى ممارساته المعتادة في الافتعال والتصعيد؛ فإغلاق معبر رفح وتقليص تدفُّق المساعدات إلى النصف ومنع الوقود والغاز إلا لتلبية "احتياجات محدّدة" – وهذا يمثل خرقًا صارخًا للاتّفاقيات ومحاولة واضحة لخلق أزمة إنسانية جديدة وابتزاز المقاومة لتسريع عملية تسليم جثث الأسرى القتلى.

وهذا السلوك الإسرائيلي المتعنّت والمماطل لا يمكن فصله عن الإرث التاريخي للكيان الصهيوني القائم على التنكّر للاتّفاقات وخرق المواثيق، وهو سلوك تكرّر مرارًا طوال أشهر الحرب الطويلة.

فالاتّفاق الذي تَمّ التوقيع عليه في قمة شرم الشيخ برعاية الرئيسين الأمريكي والمصري، وبمشاركة قطر وتركيا والولايات المتحدة، كان يفترض أن يفتح صفحة جديدة لإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني.

حيث تضمن بنودًا واضحة حول الإفراج عن الأسرى ووقف إطلاق النار وإدخَال المساعدات الإنسانية، بما في ذلك السماح بدخول ما لا يقل عن 600 شاحنة يوميًّا عبر عدة معابر من بينها معبر كرم أبو سالم ورفح وكارني وإيرز.

لكن الكيان الصهيوني، وفي سابقة خطيرة، أبلغ الأمم المتحدة رسميًّا بأنه لن يسمح بدخول سوى نصف هذه الكمية، وهو ما يكشف النوايا المبيّتة لاستمرار سياسة التجويع والعقاب الجماعي.

إن هذه المماطلة المقصودة تذكرنا بما ذكرته المصادر الفلسطينية خلال المفاوضات عن تحذيراتها من أن "التطبيق الميداني لأي اتّفاق سيحتاج إلى مراقبة دقيقة"، وهو ما يثبت اليوم أن مخاوفهم كانت في محلّها.

في المقابل، تثبت حركة حماس والجهات الفلسطينية الفاعلة جديتها والتزامها بالاتّفاقات، حَيثُ إن حركة حماس تبذل "كل الجهد" وتقوم بدورها في ملف الوصول إلى جثامين الأسرى الإسرائيليين المفقودين، بل وتشرك الفرق الفنية المصرية بالتفاصيل المتعلقة بأماكن تواجد هذه الجثامين.

لكن الكيان الصهيوني يتجاهل عمدًا التعقيدات الهائلة التي تواجهها هذه العمليات؛ بسَببِ الدمار الكارثي الذي لحق بقطاع غزة، حَيثُ دمّـر الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 85 % من البنية التحتية والطرق وشبكات المياه والصرف الصحي، وفقًا لتصريحات بلدية غزة.

إن الدمار الهائل وتغيّر ملامح أحياء كاملة في القطاع يجعل من عملية استخراج الجثث مهمة شبه مستحيلة تحتاج إلى أَيَّـام وربما أسابيع، خَاصَّة مع عدم توفر الإمْكَانيات اللازمة للبلديات التي دمّـر الاحتلال مقراتها ومعدّاتها.

إن استغلال الكيان الصهيوني لمِلف المساعدات الإنسانية كأدَاة للضغط على حماس هو جريمة حرب بحد ذاتها، وتذكير صارخ بأن هذا الكيان لا يفهم إلا لغة القوة والمواقف الثابتة.

فبينما كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يؤكّـد خلال قمة شرم الشيخ أن مصر ستستضيف قمة إعادة إعمار غزة، وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتحدث عن "سلام في الشرق الأوسط"، كان الجيش الإسرائيلي يخطط لخنق قطاع غزة من جديد.

وهذا التناقض بين الوعود الدولية على المنصات الإعلامية والممارسات الإسرائيلية على الأرض يثبته البيان الرسمي لبلدية غزة الذي يؤكّـد أن البلدية "بدون توفير الاحتياجات اللازمة التي تحتوي على تفاصيل هندسية وفنية مثل المعدات الثقيلة، وكميات كافية من الوقود، ومعدات الصيانة، وقطع الغيار اللازمة، والمولدات، وخطوط المياه اللازمة، ستكون عاجزة عن تقديم الخدمات للمواطنين الفلسطينيين والتخفيف عنهم".

إنه مشهد مأساوي يعيد إنتاج نفس الحلقة المفرّغة من المعاناة التي يعيشها شعب غزة منذ سنوات.

الأكثر إدانة في هذا السياق هو الصمت الدولي المطبّق على هذه الانتهاكات الإسرائيلية الفاضحة؛ فالدول الضامنة للاتّفاق وعلى رأسها الولايات المتحدة لم تتحَرّك لوقف هذه الجرائم، بل إن الرئيس ترامب نفسه كان مشغولًا خلال زيارته بمنح الأوسمة والتصريحات الإعلامية بينما كان شعب غزة يئنّ تحت وطأة الحصار المتجدِّد.

إن التصعيد الإسرائيلي الجديد حول معبر رفح والمساعدات الإنسانية يؤكّـد أن التجربة علّمتنا أن الطريق بين النوايا والاتّفاقات النهائية مليء بالعقبات.

التاريخ يعلمنا أن شعب غزة ومقاومته الباسلة قادران على تحطيم كُـلّ جدران الحصار والاحتلال.

إن تصميم المقاومة على الوفاء بالتزاماتها رغم كُـلّ التحديات، والتزامها بالتوقيتات المتفق عليها في تسليم الأسرى الأحياء على مرحلتين، يضع الكيان الصهيوني في موقف أخلاقي وسياسي محرج، ويكشف للعالم أجمع من هو الطرف الجاد في السلام ومن هو الطرف المماطل والمتلاعب.

إنها معركة إرادات بين إرادَة حياة تصرّ على البقاء والتحرّر، وإرادَة موت وإبادة ترفض إلا أن تثبت فشلها الذريع على كُـلّ المستويات.