• العنوان:
    حين انكشفت اللغة وخجل الزمان
  • المدة:
    00:00:00
  • الوصف:
  • التصنيفات:
    مقالات
  • كلمات مفتاحية:

أنس عبد الرزاق

في لحظةٍ لا تُقاس بالساعات، وُلِد محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ليس كما يُولد الناس، بل كما يُولد الضوء حين يضيق الكون، وكما يُولد المعنى حين يخجل من نفسه.

لم يكن مولده حدثًا، بل كان انكشافًا، كأنّ الزمان نفسه قال: "كنتُ أعمى، حتى جاء هذا النور".

محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يُبعث ليُعلّم، بل ليُعيد ترتيب ما نظن أننا نعرفه.

جاء ليقول للإنسان: أنت لست صدفة، بل مقصد.

جاء ليجعل من الكلمة جسرًا، ومن الرحمة قانونًا، ومن الحبّ طريقًا إلى الله.

في حضرته، خجلت البلاغة، وسجدت الفصاحة، وقالت: "هذا الذي لا يُوصف، بل يُتّبع".

في المولد، لم تُضيء السماء فقط، بل خجلت من نورٍ لم تعرفه من قبل.

اللغة نفسها ارتجفت، وقالت: "أنا لا أستطيع أن أصف هذا، لكنني سأحاول".

وهكذا وُلدت القصيدة، لا لتُزيّن، بل لتُعلن العجز.

كل حرفٍ يُكتب عنه هو محاولةٌ للنجاة، وكل جملةٍ تُقال فيه هي اعتراف بأننا لا نعرف كيف نحبّ كما أحبّ، ولا كيف نصدق كما صدق، ولا كيف نرحم كما رحم.

نحن لا نحتفل، نحن نُفضَح في الغفلة.

نُفضَح لأننا نعرف النور، ونعيش في الظلال.

نُفضَح لأننا نُحبّ الصادق، ونُساوم في الصدق.

نُفضَح حين نُشعل الأنوار، ونُطفئ الرحمة في سلوكنا.

المولد النبوي هو لحظة محاكمة، لا لحظة زينة.

في مولده صلى الله عليه وآله وسلم، لم يُولد نبيٌّ فقط،

بل وُلدت إمْكَانية أن يكون الإنسان مرآةً للسماء،

أن يكون الترابُ حاملًا للنور،

أن تكون الكلمةُ طريقًا إلى الله،

وأن يكون الحبّ شريعةً لا تُلغى.

محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن نبيًّا فقط، بل كان البرهان على أن الإنسان قادرٌ على أن يحمل النور دون أن يحترق، وأن يسير في الأرض دون أن يتلوّث، وأن يُحبّ دون أن يطلب المقابل.

لقد جاء ليُعيد تعريف الممكن، ليقول إن الصدق ليس ضعفًا، وإن الرحمة ليست ترفًا، وإن الكلمة قد تُنقذ أُمَّـة إن خرجت من قلبٍ صادق.

في حضرته، لم تكن الجبالُ شاهقة، بل كانت خاشعة.

ولم تكن القلوبُ قاسية، بل كانت تنتظر أن تُبعث.

ولم تكن اللغةُ وسيلة، بل كانت عبادة.

حين نُحيي المولد، نحن لا نُزيّن الشوارع، بل نُزيّن الوعي.

نحن لا نُشعل الأنوار، بل نُشعل السؤال: هل نحن أهل لهذا النور؟

هل نحن قادرون على أن نكون مرآةً للرحمة، كما كان؟

هل نستطيع أن نُحبّ كما أحبّ، ونُعطي كما أعطى، ونصمت كما صمت حين كان الصمتُ أبلغ من الكلام؟

المولد النبوي ليس مناسبةً تُمرّ، بل لحظةٌ تُحاكمنا.

هو اللحظة التي يسألنا فيها الزمان: ماذا فعلتم بالنور؟

هل جعلتموه زينةً أم زادًا؟

هل حفظتموه في الكتب أم حملتموه في القلوب؟

محمد صلى الله عليه وآله وسلم غاب عن العين، لكنه لم يغب عن القلب.

غاب عن الزمان، لكنه لم يغب عن المعنى.

غاب عن الجسد، لكنه لم يغب عن الرسالة.

وفي كُـلّ مولد، يعود السؤال:

هل نحن نحتفل، أم نُبعث؟

هل نحن نُزيّن، أم نُطهّر؟

هل نحن نُردّد، أم نُجسّد؟

وفي كُـلّ مولد، يعود التراب ليقول:

"أنا من حملت النور، فلا تسألوني عن المعجزة، فقد مرّت من هنا".


تغطيات