• العنوان:
    معادلةُ الانهيار من رأس الأفعى إلى ذيلها
  • المدة:
    00:00:00
  • الوصف:
    أثبتت تجربة البحر الأحمر أنّ الصراعَ لم يعد محكومًا فقط بميزان القوى التقليدي، ولا بعدد الحاملات والمدمّـرات، بل بمعادلاتٍ جديدةٍ تفرضُها إرادَةُ الشعوب وقدرتُها على إعادة تعريف موازين الحرب.
  • التصنيفات:
    مقالات
  • كلمات مفتاحية:

ففي هذا الممرِّ البحري الاستراتيجي، تهاوت أُسطورة القوة البحرية الأمريكية أمام نموذج يمني مغاير، استطاع أن يحوّل أدوات محدودة إلى عنصر حسم استراتيجي.

لقد كشف اليمنيون ما يمكن وصفُه بـ"نقطة الانكسار البنيوي" في القوة العظمى، والمتمثلة في معادلة الاستنزاف الاقتصادي.

فبينما يكلّف إطلاقُ صاروخ دفاع جوي ملايين الدولارات، لا تتجاوز تكلفة الطائرة المسيّرة اليمنية بضعة آلاف.

بهذا التفاوت الحاد في الكلفة، تحوّل البحر الأحمر إلى ساحة استنزاف مُستمرّة، لا تضعف القدرات المادية الأمريكية فحسب، بل تهز صورتها كقوة ضامنة للتفوق النوعي.

ومع تراكم هذا الاستنزاف، باتت حاملات الطائرات والمدمّـرات العملاقة أهدافا معرضة، تضطر واشنطن إلى سحبها إلى مواقع خلفية بعيدة عن دائرة الخطر.

إجراءٌ لا يمكن اعتبارُه مُجَـرّدَ مناورة تكتيكية، بل دلالة على اهتزاز الثقة بفاعلية منظومات الردع الأمريكية، وما يترتب على ذلك من انعكاسات على حلفائها وشركائها في الإقليم.

إنّ ما تحقّق لم يكن نتيجة ظرف عابر، بل ثمرة مسار طويل من الابتكار العسكري اليمني، اعتمد على الهندسة العكسية واستثمار الجغرافيا الاستراتيجية لباب المندب.

وقد أفضى هذا المسار إلى إنتاج صواريخ باليستية وفرط صوتية ومسيّرات متنوعة، مكّنته من نقل المعركة من إطار الدفاع إلى معادلة الردع والهجوم.

وقد دفعت هذه المعادلة واشنطن إلى خيارات استراتيجية مكلفة؛ إذ اضطرت لاستخدام مدمّـرات أكثر عُرضةً للاستهداف، في اعترافٍ ضمني بفشل الضربات الجوية المكثّـفة، وبعجز أدواتها التقليدية عن حسم المعركة.

ومع اتساع رقعة الانتشار البحري، تآكلت قدرةُ الولايات المتحدة على إدارة ملفاتها الأُخرى، خُصُوصًا في مواجهة الصين، بما يعكس محدوديةَ قدرتها على خوض صراعات متزامنة في أكثر من مسرح.

وجاءت ذروة هذا التحول في مايو 2025، حين أُجبرت واشنطن على القبول باتّفاق وقف إطلاق النار.

وقد تضمن الاتّفاق اعترافًا صريحًا من الرئيس الأمريكي بقدرة خصمه على "تحمّل المواجهة"، في وقت احتفظ اليمنيون بأوراق ضغط استراتيجية عبر التهديد باستئناف الهجمات في حال دعم العدوان على غزة.

بذلك تحوّل الإنجاز العسكري إلى مكسب دبلوماسي، عزز موقع صنعاء الإقليمي وأعاد صياغة معادلات الصراع في المنطقة.

تداعيات المشهد لم تتوقف عند اليمن؛ إذ انعكست مباشرة على الكيان الصهيوني، الذي يمثل الامتدادَ العضوي للهيمنة الأمريكية.

فغياب العُمق الجغرافي واعتماده الكامل على المِظلة الأمريكية جعلاه أكثرَ عُرضةً للهشاشة، كما أظهرت الضربات التي طالت أُمِّ الرشراش ويافا وعسقلان وحيفا.

ومع تحكم اليمنيين بمنافذ البحر الأحمر، بدا الأمن البحري الإسرائيلي مهدَّدًا بصورة غير مسبوقة.

لقد تحوّل "النموذج اليمني" إلى حالة دراسية تستقطب اهتمام القوى الكبرى.

الصين، على سبيل المثال، تنظر بتمعُّنٍ في كيفية تحويل أدوات منخفضة الكلفة إلى تهديد وجودي لأسطول يعدّ الأقوى في العالم، وتبحث في إمْكَانية إسقاط هذا النموذج على مضيق تايوان أَو بحر الصين الجنوبي.

وهو ما دفع مراكز بحثية غربية – ومنها "ناشيونال إنترست" – إلى التحذير من أنّ ما يجري في البحر الأحمر ليس سوى "بروفة أولية" لحروب المستقبل.

إن معادلة الانهيار هذه لم تعد فرضية نظرية، بل أضحت واقعًا عمليًّا: رأس الأفعى الأمريكي يتعرض لتآكل تدريجي في قدرته على الردع، وذيله الصهيوني يزداد هشاشة تحت وقع الضربات.

إنها إشارةٌ إلى تحوّل تاريخي، يعلن نهايةَ وَهْمِ الهيمنة المطلقة وبداية عصر جديد تُعاد فيه صياغة موازين القوة على أُسُسٍ غير تقليدية.