• العنوان:
    غزة.. في ميزان التواطؤ العربي والإحراج الغربي
  • المدة:
    00:00:00
  • الوصف:
  • التصنيفات:
    مقالات
  • كلمات مفتاحية:

د. شعفل علي عمير

في عالم يموج بالتناقضات السياسية والأخلاقية، تتجلى مفارقة مؤلمة تتعلق بردود الفعل العالمية تجاه الجرائم البشعة التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة. تمثل هذه المفارقة مرآة تعكس الفجوة العميقة بين مواقف العالم الغربي والعربي إزاء هذه القضية الإنسانية المأساوية.

على الرغم من التوقعات بأن تكون الشعوب العربية والإسلامية في طليعة الجهود الاحتجاجية والدفاع عن غزة، يظهر الواقع عكس ذلك تمامًا، حَيثُ نجد الجماهير الغربية تخرج في تظاهرات جريئة بينما يسود الصمت في العواصم العربية.

لقد أصبحت قضية غزة رمزًا للمقاومة والصمود الفلسطيني أمام آلة القمع الصهيونية، ورمزًا للاضطهاد المُستمرّ الذي يعانيه الشعب الفلسطيني منذ عقود.

وفي هذا السياق، تبرز مواقف الغرب بشكلٍ لافت؛ إذ شهدت العواصم الأُورُوبية والأمريكية مظاهرات ضخمة تندّد بالاعتداءات الإسرائيلية وتطالب بوقف جرائم الإبادة الجماعية والممارسات العنصرية ضد الفلسطينيين.

يتجمع الناس من خلفيات وثقافات متنوعة ليعبروا عن تضامنهم مع غزة، حاملين اللافتات والشعارات التي تدعو إلى إنهاء الاحتلال وتحقيق العدالة والسلام. إن هذا الحراك الشعبي يضع حكوماتهم في موقف حرج، حَيثُ ينبغي عليها مراجعة سياساتها الداعمة لـ (إسرائيل) في مواجهة هذه الضغوط المتزايدة.

في المقابل، تبدو الساحة العربية خالية من أي تحَرّك جماهيري يتناسب مع حجم المأساة التي يعيشها أهل غزة. يثير هذا الصمت العربي الدهشة والاستياء، ففي الوقت الذي تُعتبر فيه القضية الفلسطينية قضية مركزية في الوعي العربي، نجد غيابًا شبه تام للمظاهرات والاحتجاجات التي كان من المفترض أن تكون صاخبة ومدوية.

تتعدد الأسباب وراء هذا الصمت وتعقيداته، بدءًا من القمع السياسي الذي تمارسه بعض الأنظمة على شعوبها، وُصُـولًا إلى الانشغالات الداخلية التي تلهي الدول عن قضاياها القومية الكبرى، مُرورًا بالفتور السياسي العام الذي أصاب العديد من المنظمات والأحزاب العربية.

لا يمكن تجاهل مسؤولية الأنظمة العربية في هذا السياق، فالصمت الرسمي الذي يغلب على مواقف العديد من الدول العربية يجعلها شريكة بطريقة أَو بأُخرى في تعميق معاناة الفلسطينيين.

إن عدم اتِّخاذ مواقف حازمة وإجراءات فعلية للضغط على (إسرائيل) والمجتمع الدولي يُعد تواطؤًا غير مباشر مع السياسات الصهيونية. كما أن تغييب الوعي الشعبي العربي عبر سيطرة الإعلام الرسمي وتوجيه الرأي العام بعيدًا عن أولوياته الحقيقية يُساهم في تعزيز هذا السكون المرعب.

بينما يبقى التساؤل ملحًا حول أسباب إحجام العرب عن التعبير بشجاعة عن تضامنهم مع إخوانهم في غزة، يتأكّـد لنا أن التغيير الحقيقي يتطلب إرادَة سياسية جماعية من القادة والشعوب على حَــدّ سواء. إن التاريخ سيحكم على هذه اللحظة وسيحفظ لمن وقفوا مع الحق موقفهم النبيل، كما سيعاقب المتخاذلين على خذلانهم المخزي.

يجب أن ندرك أن ما يحدث في غزة ليس سوى حلقة في سلسلة من الظلم الذي يعانيه الفلسطينيون، ولا يمكن أن تكون الردود الصامتة هي الحل.

إن الأمل يتجدد في الوعي الجماهيري، وفي أن يدرك العرب والمسلمون أهميّة دورهم ومواقفهم في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الأُمَّــة.

الانخراط في الحراك العالمي بدل الاكتفاء بموقف المشاهد الصامت هو الطريق الأمثل لنصرة قضية فلسطين وتحقيق العدالة لشعبٍ طال انتظاره للحرية.

لقد شهدنا في السنوات الأخيرة إدانات واستنكارات من شخصيات ومنظمات في الغرب ضد ما يرتكبه الكيان الصهيوني من جرائم حرب بحق الشعب الفلسطيني، وكان من بينها دعوات لمحاكمات دولية لمرتكبيها.

ومع ذلك، لا تزال بعض الأنظمة العربية تتوارى خلف ستار من العبارات الدبلوماسية الفضفاضة التي لا تجدي نفعًا تجاه المأساة الإنسانية المُستمرّة في غزة. وبات واضحًا أن الشجب الأُورُوبي لجرائم الكيان الصهيوني، وإن كان غيرَ كافٍ بحكم تركيبة المصالح المتشابكة بين دول الغرب و(إسرائيل)، إلا أنه أصدق من موقف بعض الأنظمة العربية التي تدعي وصلًا بقضية فلسطين.

تزداد المفارقة؛ إذ ندرك أن بعض الدول العربية انغمست في موجة العلاقات والتطبيع مع الكيان الصهيوني، متجاهلة الكفاح الذي يخوضه الفلسطينيون لإحقاق حقوقهم المشروعة.

وتبدو هذه الخطوات كقفز فوق الدماء الفلسطينية التي ستظل لعنة تلاحق كُـلّ من تواطأ أَو صمت عن الحق. إن التطبيع مع المحتلّ في ظل استمرار جرائمه في غزة يعد خيانة للشهداء والطموحات الوطنية التي لن تنطفئ رغم كُـلّ المحاولات لطمسها.

كيف يمكن للعالم العربي أن يسمح لنفسه بأن يتحول إلى منصة صامتة تُحصي الطعنات التي يتلقاها أبناء غزة ولا تفعل شيئًا سوى البيانات الكلامية؟ لقد أتيحت هذه الجرائم البشعة فرصة للأنظمة العربية لإعادة توجيه البُوصلة نحو دعم القضية الفلسطينية بشكل فعال وحقيقي، إلا أن المواقف الفعلية بقيت في إطار الاستنكار والشجب الخجول الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.