الحلقة الأولى من كتاب(تلك هي فاطمة) للأستاذ حمود الأهنومي

لماذا غُيِّبت الزهراء؟ إذا كان الأستاذ العقاد يقول في كتابه فاطمة الزهراء والفاطميون: "في كلِّ دين صورة للأنوثة الكاملة المقدَّسة، يتخشَّع بتقديسها المؤمنون، كأنما هي آية الله فيما خلق من ذكرٍ وأنثى، فإذا تقدَّست في المسيحية صورةُ مريم العذراء، ففي الإسلام لا جَرَم تتقدّس صورة فاطمة البتول"، فلا أجد ما يسوّغ أو يبرِّر لواضعي الاستراتيجية التربوية في اليمن تغييبَ فاطمة الزهراء عن المناهج التربوية في التعليم الأساسي والثانوي والجامعي طوال عقود ماضية غير الخضوع والانسياق لما تمليه الرغبات الخارجية التي ترى في نموذج الطهارة والعفة خطرا يوجب إخراجَه من مناهجنا.
المقدمة
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وصلِّ اللهم وسلِّم على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين، وارضَ اللهم عن الراشدين من أصحاب نبيك والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
جعل الله أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرناء القرآن، يشرحون أحكامه، ويُعْلنون هديَه، وخلَّفهم رسولُ الله في أمته أمانا من الضلال، وعصمة من الانحلال، وإذا أرادت الأمة تصحيحَ مسارها يمَّمَت وِجهتها نحوهم لاتخاذهم قدوة حسنة، تصحِّح من خلالهم أخطاءها، وتَميرُ من هديِهم ما يقيم أوَدَ مسارِها.
وما يمارسه عالَم اليوم المستكبِر من همجيةٍ رعناء ضد البشرية المستضعَفة، وما نراه من استطالة أنظمة الشر على المسلمين، بل وعلى ما بقي من خير في شعوب الإنسانية بالمسخ والانحراف والاضطهاد والاستغلال خارج سياق الفطرة فإنه يحتِّم على شعوبنا أن تعود لأصولها الأولى، ومصادرها الصحيحة، وقدواتها الإيمانية العالمية.
ولعل أكبرَ مثالٍ صارخٍ تتبختر فيه هذه الحضارة المادية قبحا وإجراما ضد الإنسانية، هو هذا العدوان السعودي الأمريكي الصهيوني الجاهلي ضد شعبنا، والذي من ضمن ما يستهدفه بدرجة أساسية المرأة، إما بالقتل المتعمَّد، والإبادة المقصودة، أو بالحرب الناعمة التي تحاول تجفيف قيمِ المرأة ومبادئها وأخلاقها وشيمها المحافِظة واستبدالها بقيمٍ وأخلاقٍ وشيمٍ مغايِرةٍ ومخالفةٍ للإسلام، لكي يسهُلَ لهم اقتيادُ المجتمعات واحتواؤُها وتغييرُ ما بقي من مقوماتٍ متينة فيها.
استخدم أعداءُ الأمة وأعداءُ شعبنا سلاحَ الحرب الناعمة من قبل أن يشنوا عدوانهم الوحشي الجبان على بلدنا، لغزو العقول والأدمغة، واحتوائها ضمن منظومات قيمية وأخلاقية تقتاد في نهاية المطاف الشعوبَ إلى البلاهة والاستحمار، وضياعِ الوِجهة الفاعلة والمنتِجة، وبهذا يستطيعون الاستمرار في مشاريعهم التمزيقية والتدميرية، ولما شنوا العدوانَ الخشِن كانت الحرب الناعمة جبهةَ عدوانٍ خطير أيضا، يركِّز في الأساس على تصديع الجبهة الداخلية، وإضعاف تماسك المجتمع في ملحمة الصمود الأسطورية التي سطرها شعبنا خلال عامين كاملين.
منذ وقت مبكر كانت المرأةُ المنفذَ الذي يحاولون منه الدخولَ إلى تنفيذِ أغراضِهم الدنيئة، مستغِلِّين ومشجِّعين حالة التجهيل التي فُرِضَتْ عليها من جهة، وحالة الانبهار بالغرب والتي أصيبت بها بعض النساء من جهة أخرى، واللائي وإن كن بعددٍ قليل لكن تأثيرَهن بقدر الإمكانات التي تحرِص المنظمات المشبوهة على توفيرها فتعطيهن مساحة أوسع للتحرك السلبي في المجتمع.
في كلمته بمناسبة اليوم العالمي للمرأة المؤمنة 20 جمادى الآخرة 1435هـ قال السيد عبدالملك الحوثي: "اليوم تتعرض المرأة المسلمة للتأثير باستهدافها لأن تكون متأثرة بالمرأة الغربية التي تختلف معها إلى حدٍّ كبير في المبادئ وفي القيم وفي الأخلاق، المرأة الغربية التي كانت إلى حدٍّ كبير ضحية، ضحية لعمل كبير استهدفها بدءا، ثم أرادوا بها ومن خلالها أن تكون هي النموذج غير المنسجم وغير المتوافِق للمرأة المسلمة، نموذجٌ لا يتوافق لا مع دينها ولا مع أخلاقها ولا مع مبادئها ولا قيمها الإنسانية، نحن نقول: إن المرأة الغربية كانت ضحية، استُهْدِفت من قبل أولئك المجرمين، المفسدين في الأرض الذين سعوا إلى الانحراف بالمرأة عن دورها ومكانتها ومقامها وكرامتها، وعمِلوا على أن يجعلوا منها ألعوبة، وأرخصوها إلى حدٍّ كبير، حينما أرادوا أن يجعلوا منها مجرد ألعوبة للإغواء والإفساد ونشر الرذيلة والعياذ بالله".
وأضاف قائلا: "هناك استهداف للمرأة في الحالة القائمة في عالمنا الإسلامي، في منطقتنا العربية، في شعوب أمتنا، هناك استهدافٌ مؤكَّدٌ للمرأة وللرجل جميعا، والاستهداف للمرأة كذلك في فكرها في ثقافتها في قيمها في أخلاقها، .. تحت عنوان التحضر والحضارة والرقي، وهي عناوين زائفة؛ لأن إفساد المرأة المسلمة لا يمت بأي صلة للحضارة، لا يمت بأي صلة للحضارة أبدا".
لقد فضح هذا العدوان كلَّ الادعاءات الغربية وكشف بشكل لا مرية فيه حجم النفاق الغربي تجاه المرأة، التي ظلوا يحكون عن حقوقها، ويتغنون بحريتها، ولكنهم اليوم وعلى مدار عامين يشنون حربا عدوانية عالمية تستهدفها بالدرجة الأولى، إذ هم من يقود العدوان ويزوِّده بالطائرات الحديثة، وبالأسلحة المحرمة، وبالدعم السياسي والغطاء الأممي، وهم يعلمون أن أول الضحايا في هذا البلد هي المرأة، ومع ذلك وبينما يتحدثون بصخب عن حقوقها الجنسية، يسلبونها حقها الوجودي، الذي استهدفته طائراتهم.
هذا ما عبَّر عنه السيد القائد في رسالته للمرأة بمناسبة مولد الزهراء، اليوم العالمي للمرأة المسلمة في العام الماضي؛ إذ اعتبر هذا العدوان: "شاهداً أيضاً على زيف وخِداع الغرب فيما يحكيه ويدّعيه عن حقوق المرأة وحقوق الطفل، ففي مقابل البترودولار لم يعُدِ الغربُ يحكي عن مظلومية المرأة اليمنية التي هي اليوم أكبر مظلومية على وجه الأرض، بل إن أمريكا وبريطانيا وفرنسا ودولاً أخرى هي التي تقدِّم للنظام السعودي سلاح الفتك والتدمير بما في ذلك الأسلحة المحرمة دولياً، مثل القنابل العنقودية وغيرها؛ ليقتل بها أهل اليمن نساءً وأطفالاً ورجالاً بأبشع صور الإجرام وحشية.
وفي هذا درسٌ مهمٌ لبعضِ الأخواتِ اللواتي ينظرْنَ بإيجابية إلى نشاطِ بعضِ المنظَّمات أو الدول الغربية؛ إن الوقائعَ والأحداثَ تكشِف الحقائقَ بما يفوق كلَّ المحاولات الرامية للتزييف والخداع؛ وبئس ما يفعله الأعداء الضالون".
إزاء ذلك ولدورِ المرأة العظيم في مسيرة الفطرة الراشدة، وبناء المجتمعات القوية والملتزِمة، التي تنطلق من مفاهيم القرآن الكريم الذي عرَضَ نماذج للكمال البشري الأنثوي من خلال عدد من النساء، فإن من المهم أن تتعرف المرأة في كل زمان ومكان على سيدة نساء العالم، والتي هي سيدة نساء هذه الأمة، والتي هي أيضا سيدة نساء أهل الجنة؛ والتي حرِص المعتدون الغربيون وأدواتُهم من الأنظمة العميلة والمنساقة مع مشاريع الغرب أن يحرِموا الشعوب من التطلع إلى الكمالات البشرية من خلال هذه القدوات القرآنية الرائدة.
دوافع تأليف هذا البحث:
حفزتني عددٌ من العوامل لجمعِ وإعدادِ هذا البحث بهذه الصورة الأولية، ومنها:
- التلبية لحاجة المجتمع اليمني، وقد جوبِهنا في لجنة الثقافة بالمجلس الزيدي الإسلامي مرات كثيرة بضرورة توفير كتيبٍ يترجم للزهراء لمن يريد التعرف عليها من أخواتنا وبناتنا لا سيما أولئك العاملات والنشِطات في العمل الحركي الجهادي، فصار هذا جزءا من خطة المجلس وأنشطته.
- التعريف بفاطمة الزهراء المظلومة قديما وحديثا والمغيَّبة عن واقع القدوة والأسوة، وتوجيه المرأة اليوم إلى الاتجاه نحو سيدة نساء العالمين لاتخاذها قدوة حسنة بدلا عن البدائل التي تروِّج لها الحضارة المادية، تلك البدائل المتَّسخة والمشوَّهة والمنحرِفة التي رسَّختها وسائلُ الإعلام من خلال النجومية الزائفة للمغنيات والماجنات والساقطات.
- معالجة بعض الإشكالات الثقافية والأخلاقية والروحية والاجتماعية لا سيما تلك التي تتطلَّبها المرحلةُ الراهنة من خلال الإشارة إلى أهم الدروس والعبر التي يمكننا استفادتُها من حياة فاطمة الزهراء سلام الله عليها.
- شكرًا لله أن رزقني أول بنت، وهي (أريج الزهراء) بارك الله فيها، بعد طول رجاءٍ لله وانتظار لكرمه.
أهمية البحث:
- ليس هذا البحث الأول ولا الأخير، ولكنه رغم طبعته هذه، يحاوِل تقديم قراءة أولية لفاطمة الزهراء وحياتِها المتنوِّعة من خلال ما تيسّر من مرويات أهل البيت الصحيحة والمروية في كتبِهم المعتمدة.
- يحاول البحث الخروج من الطرق التقليدية للكتابة بالالتزام بمنهجية البحث التاريخي، أملا في تقديمِ العظة والعبرة والقدوة في الدرجة الأولى.
- يحاول التركيزَ على الجوانب الهامة والمطلوبة في شخصية وحياة الزهراء بما تتطلَّبه المرحلة الراهنة اليوم.
اتبع البحث منهج البحث التاريخي، في جمع المعلومات وتصنيفها وتحليلها ونقدها واستخلاصِ ما يقارِب الحقيقة والمنطِقَ منها، مقدِّما المصادرَ والروايات المعتمدة عند أهل البيت، ثم مَن سواهم، ومع ذلك فإنه ينبغي التنبيه إلى أن الكتيب في هذه الطبعة ليس سوى قراءة مقارِبة لجزء ضئيل من حياة الزهراء، على أملِ فحص موضوعاته مرة أخرى، واستكمالِ بعض الموضوعات التي لم يتطرَّق لها البحث، وأما الزهراء فهي سيرة حافلة وعطرة لا يستوعب شأنَها المجلدات الكبيرة.
أخيرًا أشكر كل من ساهم بملاحظةٍ أو اقتراح، وأخص بالشكر المجلس الزيدي الإسلامي، والسيد العلامة محمد عبدالله الهادي الذي تجشّم عناء المراجعة والتصحيح للطبعة الأولى.
واللهَ أسأل أن ينفعَنا وأمهاتنا وأخواتنا وبناتنا بما كتبتُ عن الزهراء، وأن يجعل ذلك من (المودة في القربى)، تلك الفريضة التي هي أجر الرسول صلى الله عليه وآله على نعمة الإسلام.
حمود عبدالله الأهنومي
صنعاء – 27 ربيع الثاني 1440هـ
لماذا غُيِّبت الزهراء؟
إذا كان الأستاذ العقاد يقول في كتابه فاطمة الزهراء والفاطميون: "في كلِّ دين صورة للأنوثة الكاملة المقدَّسة، يتخشَّع بتقديسها المؤمنون، كأنما هي آية الله فيما خلق من ذكرٍ وأنثى، فإذا تقدَّست في المسيحية صورةُ مريم العذراء، ففي الإسلام لا جَرَم تتقدّس صورة فاطمة البتول"، فلا أجد ما يسوّغ أو يبرِّر لواضعي الاستراتيجية التربوية في اليمن تغييبَ فاطمة الزهراء عن المناهج التربوية في التعليم الأساسي والثانوي والجامعي طوال عقود ماضية غير الخضوع والانسياق لما تمليه الرغبات الخارجية التي ترى في نموذج الطهارة والعفة خطرا يوجب إخراجَه من مناهجنا.
بصراحة لا أستطيع أن أفهمَ أنه لا يوجَد درسٌ واحد في دروس التاريخ ولا التربية الإسلامية ولا العربية ولا الوطنية والاجتماعيات في مناهج المدارس التربوية؟! إلا بأنه بسبب استلاب القرار التربوي والسياسي بل والسيادي للبلد من قبل أنظمةٍ تدين بالولاء لليهود والنصارى المعتدين وأوليائهم المنافقين.
لقد تم التغييبُ المُمَنْهَج والمتعمَّد لنموذج فاطمة الزهراء، وكان هذا أحدَ تطبيقات استراتيجية التجهيل لشعبنا ونسائنا، غيَّبوها في المناهج، وغيّبوها في المؤلفات، وفي الصحافة، وفي الحلقات، وفي خطب الجمعة، والمناسبات، ليس هذا في اليمن فقط، بل في مختلف الشعوب الإسلامية والعربية.
والخطورة أنهم غيَّبوها عن نصف مجتمعنا والذي يتحكم في النصف الآخر تربية واتجاها، غيَّبوها وهي سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء هذه الأمة، ولا أدري ماذا سيكون حال هؤلاء النسوة وهن لا يعلمن عن سيدتهن إلا ما بقي من قصص وأمثال وعبارات ورثْنها عن الأمهات والجدات مما شذ وندر وضمن دوائر اجتماعية ضيقة.
إلى أين ستتجه هذه المرأة التي غرسوا فيها مثل الرجل حب المال والجاه والشهوات أولا وقبل كل شيء، وقد صوروا لها النجاح في تحصيل الأموال وإحراز الوظائف ولو على حساب وظيفتها الأساسية، وأقنعوها أن مشاركتها للرجل هي أن تكون ذات وجه جميل وصوت رخيم تزاحم الرجل في المكاتب والمقرات، وتضفي على جوها طابع الرومانسية واللطافة، وغير ذلك من الأعمال غير المنتِجة ولا المفيدة، بينما أوهموها أن التخلُّف هو ما كانت تقوم به من مشاركة زوجها المشاركة المنتجة في فلاحة الأرض، وتنمية المواشي، وغير ذلك مما يعود بالفائدة على الأسرة والمجتمع كما تحدَّث عن ذلك الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه في ملزمة (لتحذُن حذوَ بني إسرائيل).
للأسف غيَّبوها وهي التي أحضرها القرآن الكريم، وكرِهوا وجودَها وهي التي كان يشتاق النبي صلى الله عليه وآله إلى محضرِها ورائحتها، غيَّبوها نموذجا ومثالا فحضرت أمثلة الانحراف، ونماذج الاتَّساخ، غيَّبوها علما ومعرفة وشجاعة وجهادا لتكون المرأة هي المفتونة بإبراز محاسنها لذئاب البشر، ولصوص الشرف، غيَّبوا كمالاتها الفطرية والإنسانية لتكون المرأة الصالحة هي امرأة ليلة الجمعة، على حدِّ وصف الدكتور شريعتي، والتي لا تعني شيئا للرجل إلا في تلك الليلة، بينما تقضي بقية وقتها الطويل في القيل والقال، وزراعة النمائم وحصد الشقاق والطلاق في المجتمع.
غيَّبوها عن الواقع الحضاري الأصيل لتحضُر أنواعٌ مختلفة من النساء، أكثرها رواجا تلك المرأة المسلَّعة جنسيا بغرض الربح المادي، وتهييج السعار الحيواني، وإفساد الحياة الاجتماعية للشعوب المسلمة، والزج بها في أسواق الرذيلة والتفسخ الاجتماعي.
وتتحمَّل مجتمعاتنا الإسلامية بما فيها النخب الدينية جزءا من هذه المسؤولية التقصيرية حيث خلطت فهما إسلاميا بآخَرَ من العادات والتقاليد، وجعلوا كل ذلك دينا يدينون الله به، فحُرِمَت المرأة من حق التعليم، حتى إذا أوجدوا هوة واسعة بين جيلها القديم والمعاصِر وصل المجرمون المنحرِفون إلى بعض النسوة لاستغلال ردة فعلها المندفِعة والدفع بها في الاتجاه السلبي وبما يخدم أعداء الإسلام.
وكانت نتيجة ذلك الإفراط والتفريط أن تَقَزَّم دورُ المرأة في شراكتها مع الرجل في صنعِ وخلقِ الحياة الجادَّة، ومظاهرِها الواعية والملتزِمة، وانخفض سقف طموحات البعض منهن إلى مستوى سحيق، أو شطحت طموحات البعض الآخر، وانحرفت إلى مساراتٍ مغايرة للفطرة الإنسانية وتعاليم الدين الحق؛ الأمر الذي انعكس سلبا على أداء المجتمع لوظائفه التي ينبغي أن يقوم بها.
لهذا لا مناص من العودة إلى الأصالة الإسلامية لمواجهة التحديات الراهنة بوعيٍ وبصيرةٍ، وإدراك لطبيعة الصراع والتفاعلات الحضارية.
مكة وبنو هاشم
تنتمي الزهراء لمكة مكاناً، وبني هاشم عائلة، وهي البلدة التي ذكرها القرآن الكريم، وسماها (بكة)، و (أم القرى)، و (البلد الأمين)، والتي كانت شعابا في وادٍ غير ذي زرع، لكنها ببركة البيت العتيق الذي وضعه الله للناس محجة وقِبلة استجاب الله لدعاءِ نبيِّه إبراهيم % لذريته بأن جعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، ورزَقَهم فيها من الثمرات.
عشية ظهور الإسلام "كانت مكة مركزا مهما في الحجاز، ذا قدسية خاصة، وذا مكانة كبيرة في عالم المال والتجارة، تتحكم فيها مظاهر الجاهلية من التفاخر بالأنساب والأحساب والمال والجاه، وتسيطر عليها نزعة استبداد القوي بالضعيف، وسيطرة الغني على الفقير"( ).
جغرافية مكة القاسية والقليلة الجدوى في المجال الزراعي، ألقت بظلالها على طباع أهلها وطبيعة تحركهم ونشاطهم الاقتصادي، فهم قساة أشداء، امتهنوا التجارة، واستغلُّوا وجودَ بيت الله الحرام، والأثر الروحي لجيرتهم له؛ لينتزِعوا إيلافا (أمانا) من قبائلِ العرب، بموجَبه كانوا يتحرَّكون آمنين بتجاراتهم العابرة للأقطار، لا مِريةَ أن فتحت هذه الأسفارُ آفاقا واسعة أمامهم، وأكسبتْهُم مهاراتٍ وحنكة اجتماعية وإدارية متميزة.
نشأت طبقية اقتصادية غير حادَّة في مجتمع مكة، وكان الغِنى أهمّ مظاهر الشرف في وعي أهلها، غير أنه بقي توازُنٌ اجتماعي بين الأسر المكية مكَّن من تقاسم السلطات الروحية والاقتصادية والاعتبارية بينها، ورغم شبه الاستقرار الاقتصادي إلا أن قرار الحكم فيها لم يكن مركزيا بل كان شبه توافقي وعَبْر نفوذ الأشراف من رؤساء قبائل قريش.
ساهمت المرأة في الحياة الاقتصادية في مكة رغم احتقارها من قبل الذكور كما هو شأن العرب الجاهليين، لكنها استطاعت في مكة أن تجِد لنفسها مكانا ما في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وخير مثال على ذلك ما كانت عليه خديجة بنت خويلد ونشاطها التجاري الرائد، ومع ذلك فهناك روايات تفيد أن قريشًا مضت فيما مضى فيه الجاهليون من وأد البنات، وقتل الأولاد، ولعل ذلك كان يحدث في الأسر والعوائل الفقيرة.
إن مدينة مثل مكة مقدسةً وعاصمة للثقافة الدينية والحياة الروحية للعرب، ونشاطُ أهلها هو التجارة العابرة للأقاليم المختلفة ذات الثقافات المتعددة، لابد أن ذلك جعل من أهلها ذوي معارف وقدرات ومهارات مختلفة.
كان بنو هاشم أهمَّ أسرةٍ قرشية في مكة عند ظهور الإسلام، ورغم أن سلطتهم الروحية عوَّضتهم عما فاتهم من شرف المال، إلا أن هذا لا ينفي وجودَ سلطة لأسر أخرى كانت تنافسُهم، وتُمْسِك بعضَ حبال السلطة التوافقية إن صح التعبير، مثل بني عبد الدار، وبني مخزوم، وبني عبد شمس، ومنهم بنو أمية، وغيرهم.
أمها خديجة
اختار الله أن يكون والدُ فاطمة الزهراء هو خير الخلق طُرا، وسيد ولد آدم جميعا، ولا أبوة في الدنيا تساوي أبوتها، ولا شرفَ يداني شرفها، وهذا أمر لا تفي بمقامه العبارات ولا المجلدات.
أما أمُّها فهي خديجة بنتُ خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من عقيلات قريش المبرِّزات، وأعظمهن شرفا، دُعِيَت في الجاهلية بالطاهرة لشرفها وعفتها، واستطاعت مع قرشيات أخريات اختراقَ حالة الجاهليين الفكرية المحتقِرة للمرأة، فصار لهن نشاط تجاري عابر للحدود الإقليمية.
كان جدُّها أسد بن عبد العزّى أحدَ أعضاء حلف الفضول، الذي تعاقدت بموجبه قبائلُ وشخصياتٌ من قريش على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلاّ نصروه، وكانوا على مَنْ ظلمه عَوْنًا حتى تُرَدَّ مظلمتُه، وكان حِلفا يُعبِّر عن ضميرٍ إنسانيٍّ استيقظ لفطرة حب العدالة وكراهة الظلم، وهو الحلف الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أحبُّ أن لي به حمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأَجَبْتُ ".
وكان ابن عمّها ورقة بن نوفل بن أسد أحدَ الذين تنسَّكوا واعتزلوا عبادة الأوثان، وهجروا قومهم فتفرّقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم % ( ).
شاء الله أن تتعرَّف خديجةُ على أمانةِ وصدقِ ونُبل الفتى الهاشمي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لترغبَ في الزواج منه، ووجدت سبيلا إلى مخاطبته بطريقة غير مباشرة، فتزوَّجها، ولما بُعِث ÷ كانت هي أولَ امرأة آمنت بدعوته، وصلَّت معه هي وعلي آ سبع سنين لا يوجد لهم رابع، وبذلت أموالها في نصرته، وكانت نعم العونُ والسَّنَدُ له.
أكرمها الله بأن جعل من نسلها فاطمة الزهراء، التي حفِظ الله في نسلها ذرية الرسول المصطفى ÷، فهي جدة آل البيت الكبرى، وأمهم الأولى، ونالت بذلك شرفا عظيمًا، ومجدا فخيما، وأعظِم بذلك من مجد.
توفيت ‘ في السنة العاشرة من البعثة بعد خروج بني هاشم من حصار الشِّعب، أي قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين، وذلك بعد أن عاشت مع رسول الله ÷ حوالي رُبْعِ قرنٍ كانت له فيها الزوجةَ الحبيبة، والسندَ القوي، والظهيرَ الرائع.
لم ينْسَ الرسول ÷ ذكرَها بعد أن ماتت، ولكثرة ذكره لها والثناء عليها استثيرت غيرةُ عائشة، فقالت له يوما: هل كانت إلاّ عجوزاً قد أبدلك الله خيراً منها، فغضب، وقال: "لا والله ما أبدلني خيراً منها، آمَنَتْ بي إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرَمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً دون غيرها من النساء"( ).
ولادتها
ورد في القرآن الكريم ما يشير إلى قتل بعض الجاهليين أولادَهم خشية الإملاق وخوف الفقر، وهم الفقراء من بعض قبائل العرب، وفيهم نزلت الآيات: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾[الإسراء:31]، ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾[الأنعام:140]، ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُم﴾[الأنعام:151]. وظاهر لفظ الآيات النهي عن جميع أنواع قتل الأولاد ذكورًا كانوا أو إناثًا وأن جريمة القتل كانت تحدث لأسباب اقتصادية مخافة الفقر والفاقة، إلا أن آية ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾[النحل:58، 59] تدل على أن الجريمة كانت أيضا بدافع اجتماعي، وبسبب كون المولود أنثى، حيث كان والد البنت مدفوعا لاتخاذ ذلك الموقف بضغط وعيِه المنحَرِف وبضغط المجتمع وثقافته الجاهلية؛ ولهذا العار الذي يشعر به ﴿يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ﴾، ويخيِّر نفسه لذلك بين أمرين، ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ﴾ يطاله من المجتمع، ﴿أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾.
لم تكن مكة بمعزِل عن ظاهرة الوأد، ويقال: إن بمكة جبلا يقال له "أبو دلامة" كانت قريش تئد فيه البنات( ).
وُلِدَت فاطمة الزهراء بعد إخوةٍ وأخوات سبقوها، وجاءت هي الأخيرة أنثى أيضًا، في مجتمعٍ كان ينظُر إلى الأنثى كما تقدَّم باعتبارها عارًا وهُوْنا، وكانت إشراقة الزهراء متزامِنةً مع إشراقةِ فجرِ الإسلامِ الذي جاء ثورة تغيِّر كثيرا من هذه المفاهيم والتصوُّرات الخاطئة، وكان يهدِف فيما يهدِف إليه إلى تغيير نظرة المجتمع بطريقةٍ فعليةٍ ملموسةٍ، تُثبِتُ الحقيقةَ وتنوِّرُ البصيرةَ، وكانت الزهراء أداة مغيِّرة من أدوات الحكمة الإلهية لذلك الواقع المرير، ليس في كونها أنثى يحتفي بها والدُها النبي ÷، بل أيضا في تسييدها على نساء الأمة، ونساء العالمين، ونساء الجنة، ثم بعظيمِ دورِها الذي أنجزَتْه في حياة والدها وبعد وفاته.
تختلف المصادر في تحديد عام ولادتها؛ فهناك من يقول: إنها ولدت بعد البعثة بخمس سنوات، وهناك من يقول: إنها ولدت قبل البعثة بخمس سنوات، وهناك من يروي أنها ولدت في عام البعثة، ويُشكِل على أصحاب القول الأول أنهم يثبِتون أنها تزوَّجت في السنة الثانية للهجرة وسنُّها تسع سنوات، وأنجبت ولدَها الحسن عليه السلام وسنُّها عشر سنوات، وهذا يستبعد حصوله، لا سيما وهناك روايات عن أهل البيت آ تبين أن سنَّها كان عند الزواج ما بين 15 سنة، و18 سنة، ففي رواية عن الإمام القاسم بن إبراهيم أن عمرها عند الزواج كان أربعَ عشرة سنة( )، لكنه أيضا يُحْمَل على سن خطبتها، وليس البناء بها، وأن البناء لم يتم إلا وهي في خمس عشرة سنة، ويرجِّح ذلك أنه تم في روايةٍ تحديدُ عمر زفافها تحديدا دقيقا، وهي خمس عشرة سنة، وخمسة أشهر، ونصف( )، وإذا كانت قد توفِّيَتْ وعمرُها ثلاثٌ وعشرون سنة بحسب رواية الباقر عليه السلام ( ) وأن الإمام عليا عليه السلام بنى بها في السنة الثانية من الهجرة فهذا يعني أن عمرها عند الزواج كان خمس عشرة سنة وخمسة أشهر تقريبا كما ذُكِرَ في تلك الرواية المفصَّلة، وعلى هذا فالذي يترجّح أنها وُلِدت في عام البعثة، أو بعده بقليل على أقل تقدير.
وبهذا يتبين أن نور فاطمة ‘ أشرق على الحياة يوم أشرق الإسلام؛ ليدفِن الإسلامُ كلَّ مآثر الجاهلية، ويحيي القيم والأخلاق والتعاملات الفاضلة، ويئِدَ ذلك الموقفَ البشِعَ والمنحرِفَ من المرأة، ولكأن الإسلام برسوله يريد تغيير هذه النظرة المنحرِفة بالمقال وبالفعال، وبالوجدان والسلوك.
رزق الله نبيه صلى الله عليه وآله أولادا ذكورا وإناثا، وشاء الله أن يموت الذكور صغارا، وتبقى البنات التي يزعم الجاهليون أن وجودَهن أسوأُ من عدمهن، فسماه القرشيون (أبتر) بسبب هؤلاء البنات، لكن الله أراد أن يقول لهم: إن هذه البنت التي بسببها وموت إخوتها الذكور سمَّيتم الأب (أبتر)، فإنه لا بد أن يرزقه الله ويعطيه (الكوثر).
اختصت الزهراء في حال ولادتها بخصوصية إرضاع أمها خديجة لها، وبرعاية رسول الله لها رعاية خاصة وإعدادها إعدادا خاصا، ثم إناطتها بأعمالٍ وأدوارٍ استثنائية كما سيتبين ذلك.
نشأتها
قدِمَت فاطمة إلى هذه الدنيا مع قدوم الإسلام، وكان العاص بن وائل السهمي قد عيَّر رسولَ الله ÷ بأنه أبتر؛ وها هو قد رزقه الله مولودًا آخر؛ لكنه أنثى، والأنثى مما تغيظُ الجاهليين، فبشّره الله وأعطاه الكوثر، ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾، والكوثر يشمل مصاديقَ عديدة، وعلى رأسها ذريته المباركة الطيبة التي ملأت الآفاق.
ورد من معاني الكوثر كما سيأتي: الذرية الكثيرة؛ وبالتالي فالزهراء هي مبدأ الكوثر، أو رمزه، أو سببه الذي أُعْطِيَه رسول الله ÷، ويعني الكوثر أيضا الخير والبركة، والكثرة والامتلاء وكثرة الذرية( )؛ وبهذا جعلها الله محل البركة، وعنوان العطاء، ومصدر الذرية المباركة، وأم الأبرار الهداة الأعلام.
كانت خديجة أم المؤمنين إذا وَلَدَت ولدا دفعَتْه إلى من يُرْضِعُه، فلما ولَدَت فاطمة لم تُرْضِعْها امرأةٌ غيرُها( )، ولعل الله أراد إكرامها بذلك أولا، ثم أيضا للخوف عليها من غائلة أعداء النبي محمد ÷، فخديجة تعلم أن دعوة زوجها إلى الإسلام ستسبِّب لهم المتاعب، وتثير عليهم العداوات؛ ولهذا من الأفضل أن تكون وليدتُها الجديدة في مأمنٍ من غائلة تلك الاحتمالات.
نشأت فاطمة في حِجر أمها، تٌرْضِعُها من أخلافها، وتفيض عليها من حنانها، وفي رضاعة الأم ما فيها من أثرٍ جميلٍ، وعائدةٍ حسنة، على صحة هذه الوليدة المباركة، كما هو معروف في علم الطب اليوم.
نشأت سلام الله عليها على يد أمها خديجة، وأبيها محمد ÷، في وقت كان الإسلام أيضا ينشأ ويظهر وينمو على يد الرسول الكريم ÷، وبمساعدة مالِ أمها خديجة وعونها؛ ولكأن الإسلام والزهراء صنوان جاءا إلى الدنيا على ميعاد.
ترعرعت في كنَف أبوين طاهرين، تحفُّها تعاليم جبريل، وهو روَّاح بها غدَّاء إلى والدها، في بيتٍ طالما ملأتْ أجواءَه نسماتُ الوحي، وآياتُ التنزيل، نشأت وأبوها يعوِّذها وذريتَها من الشيطان الرجيم، وكان ذلك دأبَ المرسلين والأولياء المخلصين، ثم هو المصطفى الذي كان يعوِّذ ولديها الحسن والحسين، ويقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة)، ويقول: (إن إبراهيم % كان يعوِّذ بهما إسماعيل وإسحاق 6)( ).
نشأت في بيتٍ ينطلق في أمرٍ جلل، ويسعى لإحداث تغييرات كبرى في ذلك العالم، وضمن آثارٍ وردودِ أفعالٍ مؤلمة وقاسية، ورغم صعوبة مواقف أهل هذا البيت وعِظَم مسؤوليتهم؛ إلا أنها نعِمت بحنانِ قلبَي أبوين كبيرين، ومربيين عظيمين، وهل هناك أعظم من الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله مربيا، وهل يشابه حنانُ أبٍ على ولدٍ حنانَه على الزهراء، المرأة الاستثنائية التي هي كوثره ÷، وأم أعلام الهدى من ذريته، حنانٌ يعلِّم الوقارَ، ويبني النفوس، ويغذِّي العقول، ويُعِدُّها لأدوارٍ عظيمةٍ لا يقوى عليها في الإسلام إلا أهلُ هذا البيت.
"لقد نشأت نشأةَ جِدٍّ واعتكاف، نشأةَ وقارٍ واكتفاء، وعلمت مع السنين أنها سلسلةُ شرفٍ لا منازِع فيه من واحدة من بنات حواء فيمن تراه"( )، نشأت في بيتٍ ربَّتُه تاجرةٌ ذكيةٌ وعاقلة حصيفة، لها علاقاتها الواسعة، وأموالها الطائلة، ورئيس هذا البيت قد كُلِّف بمهمة عظيمة جليلة ومقدسة، أن يُخْرِج الناس من الظلمات إلى النور، ويتردَّد على هذا البيت أصدقاءُ وصديقاتُ العائلة ومن تربطهم به علاقات التجارة والدعوة.
تَفَتَّحت عين فاطمة مع تفتُّح عين الإسلام، لتجد هؤلاء تحت ظلال هذا البيت الطاهر، الذي بدأ لتوه التبشيرَ بالدين الحق، الدينِ الذي من شأنه أن يُثير حنَق الظالمين والمستكبرين وكبراء القوم في مكة وجُلِّ العالم.
تعلَّمتِ الزهراء في هذا البيت وفي هذه البيئة تعليمَها الأولي، كالقراءة والكتابة، والحساب، والمعارف الأولية، فمن أمها التاجرة تتعلَّم الحساب، ورياضة الأذهان، ومن عليٍّ % - الذي كان نزيلا على هذا البيت أغلبَ سني عمره الأولى - تتعلم القراءة والكتابة، ومن الرسول تعلَّمتِ السمْتَ والهدْيَ والدل( ).
تعلّمت الزهراء في دار أبويها ما لم تتعلَّمْه طفلة غيرها في مكة، آيات من القرآن، وعادات يأباها مَنْ حولهم، "سمعت القرآن الكريم من أبيها النبي ÷، وسمعته من باب مدينة علم المصطفى علي %، وصلَّت به، ووعت أحكام فرائضه".
ها هي الآن تكبُر وترى أهل هذا البيت وهم يتحدثون في أمر جلل، وكيف يواجهه كبراء القرشيين المستهزئين، وهي تراهم (أباها وأمها وابن عم أبيها علياً) يصلون (سبع سنين) لا يراهم أحد إلا هي، وهي التي نمَت على أصداء الوحي، وتنفَّسَتْ نسائمَ الهدايةِ الأولى، ونالت بركات حضور جبريل عليه السلام صباحَ مساء.
ولا أستبعد أن رسول الله ÷ الذي نزلت عليه آياتٌ تأمر بالقراءة وتحث على العلم، أنه قد دفعها إلى معلِّمات أخريات، فهناك رواية تقول بأنه جعلها عند أم هانئ بنت أبي طالب، لرعايتها والقيام بشأنها( )، وتقول أم سلمة: إن رسول الله ÷ فوَّض أمْرَ ابنته الزهراء إليها، فكانت تؤدِّبها، وتدلها، فقالت: "وكانت واللهِ آدَبَ مني، وأعرفَ مني بالأشياء كلها"( ). وكلمة الأدب تعني التعليم الأولي، الذي تدل عليه صراحه كلمة "أعرف مني".
ثم وهل هناك معلِّم يفوق معلم البشرية جمعاء تربية وتعليما، فما ظننا بفتاة تربَّت وترعرعت على يد أعظمِ معلمٍ للبشرية؛ لا غروَ أنها بلغت مبلغا عظيما في ذلك.
سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء هذه الأمة، وسيدة نساء أهل الجنة، وبنت محمد ÷ مدينة العلم، وزوج علي % باب مدينة العلم، لا يجوز أن تكون إلا متعلِّمة ثم عالمة، ووصف السيدة عائشة لها بأنها كانت أكثر الناس شبها برسول الله في هديِه وسمْتِه ودَلِّه كما سيأتي، يشير إلى المرتبة العالية التي وصلت إليها الزهراء في جانب المعرفة بالهدي الإلهي.
إن صفات فاطمة وأخلاقها وقيمها ومبادئها ومواقفها العظيمة التي اتخذتها بعظمةِ نفسٍ ورجاحةِ عقلٍ وقوةِ موقفٍ - تشير إلى نوعِ المعارف القرآنية، والأحكام النبوية، والإعدادات التربوية والنفسية التي تلقتها الزهراء على يد أعظم أساتذة العالم على مر التاريخ قاطبة.
صِدْقُها وشجاعتُها، وقوة نفسها، وزهدها، وأدبها، ومعرفتها للأشياء كلها، وحبها للعمل، إلى درجة أنها كانت (تدق الدرمك( ) بين يديها حتى مجلت يداها)( )، بل نوع تربيتها وطريقة حياتها ومعيشتها على النحو الذي كان عليه الرسول الكريم ÷ يشير إلى استثنائيتها نشأة وتعليما وعلما وسلوكا ووجدانا وجهادا.
إنها نموذج المرأة في الإسلام وفي الإنسانية، وكيف يجب أن تكون؛ ولهذا كانت في كل شيء مثارَ إعجابِ زوجة أبيها عائشة، وكذلك مثار إعجاب زوجات النبي÷ الأخريات، ولِمَ لا تكونُ بنتُ اليوم نشأة وتعلما ووجدانا كما كانت فاطمة تلك البنت الصغيرة؟!.
جهادها صغيرة
في غضون ذلك عاشت الزهراء ظروفَ الإسلامِ الأولى في مكة، ورأت أباها كلَّ يومٍ يحمل على عاتقه مسؤولية تبليغ الإسلام بإصرار عجيب، وتعلمت منه قُوَّتَه في ذلك، وإصرارَه وأنسَه بالله، واستشعرت معية الله له، وذاقت معه طعمَ الألم في سبيل الله، ومسَّت خشونة الحياة في مرضاته، بقدر ما تغلغلت في أعماقها لذة الطاعة لله، والانشراح مع السعي في ذات الله.
"كم مرةٍ شاهدَتْه ÷ يتحدث في الناس كأبٍ رؤوفٍ رحيمٍ يدعوهم برقة وعطف، وهم يُبْعِدونه عنهم بعنف وخشونة، ولا يجيبونه إلا بالسباب والشتيمة، فيعود وحيدا فريدا"( )، فتعلَّمت معنى أن تكون وحيدة لا يؤنِسُها إلا الحق الذي تحمله.
هؤلاء الملأ من قريش تعاهدوا يوما أن يفتكوا بأبيها ÷، وكلٌّ منهم كان قد أخذ دورا معينا في ذلك، وكانت البنت تسمعهم، فهُرِعت إلى أبيها تبكي، فقال لها: (ما يبكيك يا بنية؟)، قالت: يا أبه مالي لا أبكي، وهؤلاء الملأ من قريش يُعاهِدون باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فما منهم رجل إلا وقد عرف نصيبَه من دمك، فأراد أبوها أن يُذيقَها حلاوةَ المواجهة للطغاة بشجاعة في الموقف الحق، فقال لها: (يا بنية، ائتيني بوضوء)، فتوضأ، ثم خرج إلى المسجد، فلما رأوه قالوا: ها هو ذا، فطأطأوا رؤوسهم، بل وتناول ÷ قبضة من التراب فحصبهم بها، وقال: (شاهت الوجوه)، فما أصاب رجلا منهم حصاة من حصاته إلا قتِل يوم بدر كافرا( ).
وفي مرة من المرات حدث موقفٌ سجَّله عبدُالله بنُ مسعود، قال: "بينما كان رسول الله يصلِّي عند البيت وأبو جهل وأصحابٌ له جلوس، وفيهم عقبة بن أبي معيط الأموي، وكان أسفهَ قريش، فأطال رسولُ الله السجودَ، فقال أبو جهل: أيُّكم يأتي جزورا( ) لبني فلان، قد نُحِرَتْ بأسفل مكة، فيجيء بفرثها( ) فيضعه في كتفي محمد إذا سجد، فانبعث أشقاهم عقبة، فلما سجد الرسول ÷ ألقاه ما بين كتفيه، فاستضحكوا، وجعل بعضُهم يميل على بعض".
قال ابن مسعود: "وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة طرحْتُه عن ظهر رسول الله ÷، والنبي ساجد، ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويرية( )، فطرحَتْه عنه، ثم أقبلت عليهم توبِّخُهم وتُغْلِظ عليهم( )، وتدعو عليهم، فلما قضى النبي÷ صلاتَه، رفع صوته، ثم دعا عليهم، قال ابن مسعود: فلقد رأيتُهم قُتِلوا يوم بدر، وأُلْقُوا في القُليب"( ).
هذه الرواية تُثْبِتُ أن فاطمة تلك الأنثى التي تنتمي إلى الجنس المحتقَر عند أولئك الأعراب القرشيين، هذه الأنثى الجويرية قوِيَتْ على ما لم يَقْوَ عليه رجلٌ كابن مسعود، وصرَخت صرخة الدين والعزة والكرامة في وجوه أولئك الطغاة الذين تجرَّأوا على إيذاء أشرفِ الخلق وأطهرِهم وأكرمهم.
بل إن الرواية تشير إلى أن رجلا أسرع بإبلاغ فاطمة بما عمله المشركون، فمن هو ذلك الرجل؟ ولماذا ذهب إلى فاطمة الصغيرة، وقصَدَها دون سواها من الرجال والنساء؟ لتأتي فتصرخ في وجوههم وتنصر والِدَها الرسولَ ÷؟
ليس بمستبعد أنه بلغ من حرص الزهراء سلام الله عليها، على نصرة أبيها الرسول أن كلَّفت مَنْ يُبَلِّغها بكلِّ ما يسوء والدَها لتأتي هي أنثى صغيرة فتنصُرُ الرسولَ بما لم يستطع الذكورُ الكبارُ أن يفعلوه، وهذا ما يجب أن تعيَه فاطمة اليوم، فإنه بإمكانها أن تنصُرَ إسلامَ محمد ÷ كما نصرت فاطمة أباها، نصرة لدين الله الذي جاء به.
أما لماذا فاطمة وليس أيًا من إخوتها وأخواتها، فإنه لاستثنائية فاطمة ‘، ورمزيتها في الإسلام، وكيف أن رسول الله رمْزُ الإسلام وعنوانه كلما أراد الأعداء تشويهَه وإيذاءَه أو تشويهَ دينه جاءت فاطمة أو أعلام الهدى من ذريتها ليزيلوا ذلك الإيذاء، ويُصلحوا ذلك التشويه.
وما أعدلَ ما نراه من فاطمة اليوم في اليمن صغيرة وكبيرة وهي تقتدي بفاطمة الزهراء قوةً ومبادَرةً وصراخا في وجه الباطل، والطاغوت، والاستكبار والعدوان!
ما أعظم ذلك الموقف بتلك اليدين الحانيتين الصغيرتين، وهما ينفيان عن رسول الإسلام القذارات التي رماها عليه سفهاء قريش وكبراؤها! وما أعظم ذلك القلب الكبير موقفا، والصغير حجما! وما أكرمَ وأعزَّ ذلك اللسانَ وهو يصرخ في وجوه عتاولة الاستكبار والاستهزاء، فتَخْرَسَ ألسنتُهم، وتتوارى شخوصُهم المتعاظمة زورا وزيفا!.
إن فاطمة ‘ في ذلك الجو الجاهلي، بثقافته المضادة للمرأة لكونها أنثى، كانت رسالة السماء إلى أولئك الأقوام الذين ما فتئوا يحتقرون الأنثى، فكانت "شكل تحرير المرأة في هذا الدين من الظلم الجاهلي، وارثة كل مفاخرِ أهلها، وصاحبة مبادئِ أسلافِها في المجتمع الذي لم يكن يرى غسل عار البنت إلا بوأدها حية، وأفضل الأصهار الذي يتمناه كلُّ أب هو القبر، كان محمد صلى الله عليه وآله يعلم ماذا تفعل به يد القدر، وفاطمة تعرف من تكون، ولهذا وقف التاريخ مدهوشا أمام تعامل محمد مع ابنته الصغيرة، وركع أمام مديحه غير العادي لها. معاملة كهذه، تعني شيئا أكثر من التدليل والحب الأبوي الذي يمكن أن يفيض به قلبُ أبٍ على ابنته، أن يقبِّل يدَ ابنته، وابنته الصغيرة، هذا التصرف يعتبر ضربة ثورية انهالت على العوائل والعلاقات غير الإنسانية للبيئة، حيث هناك نبي الإسلام يقبِّل يد فاطمة"( ).
"هذا التصرفُ يبين بوضوح لأعين كبار الصحابة وسياسيي المسلمين وعامتهم عظمةَ فاطمة، ويعلِّم كلَّ الناس كيف يتحرَّرون من العادات والأوهام التاريخية والتقليدية، ويُعَلِّم الرجل أن يَنْزِل من عرش جبروته وتجبُّره الفظّ، وتفرعنه أمام المرأة، مشيرا إلى المرأة أن ترتفع عن ذلتها وحقارتها القديمة والجديدة، في كونها ألعوبة في الحياة، إلى قمة الجلال والعظمة والعفة الإنسانية"( ).
فهل نتعلم نحن الرجال من الرسول كيف نفرِّق بين ما هو عادة اجتماعية، وما هو حكم إسلامي في ما يتعلق بالمرأة، وهل تتعلم المرأة اليوم كيف تتمرد وتثور على الصورة الشائهة والنمط المتَّسخ الذي يحاول أعداء الفطرة ترسيخَه لها، بأن تكون مجردَ تسلية للذكور، ومجرد قالبٍ جنسي محموم تنتهي إليه فحولتهم؟

بعد السَّبق الفرط صوتي فجرًا.. "ألفية" جماهيرية في صنعاء والمحافظات دعمًا لغزة وتصعيدًا ضد تجويعها
خاص | نوح جلّاس | المسيرة نت: مُنتشيًا بنجاح العمليات المتتالية في عمق الاحتلال، وتوسيع الحصار الجوي عليه، يجدِّدُ الشعبُ اليمني "صُنْوُ فلسطين" خروجَه المليوني الحاشدَ إلى أكثر من 1000 ساحة؛ للتأكيد على ثبات الموقف، أمام حالة "اللاموقف" المخيِّمة على غالبية الشعوب والأنظمة العربية والإسلامية، فيما القلة منها بدا منخرطًا في الخندق الصهيوني.
حماس تستهجن تصريحات "راندي فاين" قصف غزة بالسلاح النووي
متابعات | 23 مايو | المسيرة نت: ادانت حركة حماس تصريحات عضو الكونغرس الأميركي "راندي فاين" التي دعا فيها إلى قصف قطاع غزة بالسلاح النووي.
المرصد الأورومتوسطي: عدوان المجرم نتنياهو على غزة يستهدف الوجود الفلسطيني بأكمله
متابعات | 23 مايو | المسيرة نت: قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إن الكيان الصهيوني يُهندس التجويع والتهجير لتنفيذ خطة طرد الفلسطينيين جماعيًا من غزة كشرط لوقف الإبادة.-
01:46مصادر فلسطينية: قوات العدو الإسرائيلي تقتحم بلدة حلحـول شـمال مدينة الخليل بالضفة الغربية المحتلة
-
01:45مستشفى العودة: وصول شهيد و3 مصابين بينهم طفلة تبلغ من العمر شهر جراء قصف العدو منزلًا في محيط مسجد القسام بالنصيرات
-
01:39مستشفى العودة: إصابتان إحداهما لطفل جراء قصف العدو منزلًا في محيط مصنع حمادة شرقي بلدة الزوايدة وسط قطاع غزة
-
01:05مصادر فلسطينية: شهيدان وعدد من الجرحى في قصف صهيوني استهدف منزلا بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة
-
00:55إعلام العدو: شركتا لوفتهانزا وترانسافيا و14 شركة أجنبية أخرى تمدد إلغاء رحلاتها من وإلى مطار "بن غوريون" بين 26 مايو و31 يوليو
-
00:52مصادر سورية: توغل دورية للعدو الإسرائيلي في قرية عين زيوان في ريف القنيطرة الجنوبي جنوب سوريا
-
00:44مصادر فلسطينية: جيش العدو ينفذ عمليات نسف في بلدة القرارة شمالي شرق مدينة خان يونس
-
00:22مصادر فلسطينية: 3 شهداء وعشرات الجرحى في قصف صهيوني على شقة سكنية في حي الأمل غربي مدينة خان يونس
-
00:16مصادر فلسطينية: قوات العدو الإسرائيلي تقتحم بلدة عناتا شرق القدس المحتلة
-
00:15مصادر فلسطينية: شهداء ومصابون في قصف للعدو على شقة سكنية لعائلة مخيمر في حي الأمل غربي مدينة خان يونس